مقولة "طلب الحقيقة من الواقع" مأخوذة من كتاب ((هانشو)). كان ليو ده، نجل الإمبراطور ليو تشي من أسرة هان الغربية (206 ق.م- 220 م)، مولعا بالكلاسيكيات الكونفوشية، وكان يحب دائما البحث في الجذور ودراسة وتحليل حقيقة الأحداث التاريخية عندما يقرأ الكتب. بسبب كارثة الحرب في نهاية فترة أسرة تشين (221- 207 ق.م)، كانت الكلاسيكيات الكونفوشية المبكرة التي نجت نادرة، بيد أن ليو ده لم يكن يهاب المشقات وكرس حياته لجمع وترتيب وبحث الكتب الثقافية الصينية القديمة. كان ليو ده صارما جدا في فرز الكتب القديمة، حيث دعا مجموعة من العلماء الكونفوشيين لدراسة وتحليل وتصحيح وتدقيق الكتب القديمة غير المكتملة. بعد أعمال التدقيق اللغوي الشاقة، تم فرز عدد كبير من الكتب القديمة. وقد حظيت أعمال ليو ده بثناء وتقدير المثقفين القدماء، ومنهم بان قو مؤرخ أسرة هان الشرقية (25-220 م)، الذي كتب سيرة ليو ده الذاتية في كتاب ((هانشو))، قائلا إن موقف ليو ده في دراسة الكلاسيكيات القديمة هو "الدراسة الجادة وعشق الثقافة القديمة، وطلب الحقيقة من الواقع".
تحظى مقولة "طلب الحقيقة من الواقع"، كموقف وطريقة للتعلم، باحترام جم من قبل المثقفين الصينيين، وهي شعار العلماء القدماء. على سبيل المثال، على الرغم من أن كونفوشيوس كان يعرف آداب أسرتي شيا (القرن 21- 16 ق.م) وشانغ (القرن 16- 11 ق.م) بشكل جيد، فإنه نظرا لحقيقة عدم إمكانية التحقق منها من خلال الكلاسيكيات التي تركها أحفاد أسرتي شيا وشانغ، كانت لديه تحفظات على الآداب القديمة المعنية ولم يجرؤ على التحدث عبثا. وضع موقف كونفوشيوس هذا مثالا على "طلب الحقيقة من الواقع" للأجيال اللاحقة. أكد ليو ده من أسرة هان الغربية، يان شي قو من أسرة تانغ (618- 607)، تشو شي من أسرة سونغ (960- 1279)، وانغ يانغ مينغ من أسرة مينغ (1368- 1644)، وقو يان وو من أوائل أسرة تشينغ (1644- 1911)، جميعا على أن ممارسة المعرفة تتطلب أن تكون مبررة وقائمة على الأدلة، وتحترم بشدة طريقة "طلب الحقيقة من الواقع"، والسعي باجتهاد لاستكشاف المعنى الحقيقي لـ"الكتب الأربعة" و"الكلاسيكيات الخمسة" من خلال البحث الدقيق. في العصور القديمة، لم يكن "طلب الحقيقة من الواقع" موقفا وطريقا لممارسة المعرفة التي دافع عنها الناس فحسب، وإنما أيضا كان موقف التعامل مع الناس والأشياء، وكان أيضا مبدأ حكم البلاد الذي يجب على الحكام اتباعه. اليوم، مقولة "طلب الحقيقة من الواقع" هي شعار جامعة هونان الصينية ومدرسة الحزب التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وجوهر ونواة الخط الأيديولوجي للحزب الشيوعي الصيني، والضمان الأيديولوجي لبناء وتطوير الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وتوجيه الصين خطوة بخطوة نحو الازدهار.
"طلب الحقيقة من الواقع" هو الموقف الأساسي للشعب الصيني في حياتهم اليومية، وموضوع لا مندوحة عنه في حياة الناس اليومية. إنه متجذر في التربة الغنية للثقافة التقليدية الصينية الممتازة، وهو مبدأ الحياة والموقف الذي ينتجه الشعب الصيني باستمرار منذ آلاف السنين. جاء في كتاب ((محاورات كونفوشيوس))، أنه ذات مرة بينما كان كونفوشيوس مع تلاميذه، سأله تلميذه تسي لو: "يا معلم، هل يجب أن أطبق ما سمعته على الفور؟" فأجابه كونفوشيوس: "يجب عليك استشارة والدك وإخوتك الأكبر سنا أولا، فلماذا تكون متسرعا في التصرف؟" ثم سأله تلميذه ران يو نفس السؤال، "يا معلم، هل يجب أن أطبق ما سمعته على الفور؟" فأجاب كونفوشيوس: "نعم، طبق ما سمعته على الفور." أصابت الحيرة تلميذ ثالث، وهو قونغ شي هوا، بعد أن لاحظ هذا التباين، فقال لكونفوشيوس: "سألك تسي لو ما إذا كان يجب عليه أن يطبق ما تعلمه على الفور، وطلبت منه أن يستشير والده وإخوته الأكبر سنا أولا. وسألك ران يو نفس السؤال وقلت له نعم. لماذا؟" أجاب كونفوشيوس: "يميل ران يو إلى التراجع والتردد، لذلك حثثته على المضي قدما. أما تسي لو فيميل إلى الاندفاع والتهور، لذلك كبحت جماحه."
كانت لدى كونفوشيوس طريقة تدريس محددة، لذلك قدم إجابات مختلفة على نفس السؤال. "طلب الحقيقة من الواقع" هو اختيار الطريقة الصحيحة وفقا للوضع الفعلي، وأن تكون صادقا، وأن تفعل الأشياء بطريقة واقعية. كونفوشيوس مثال لنا. اليوم، لا يزال "طلب الحقيقة من الواقع" هو الموقف الذي يجب أن نتمسك به تجاه الحياة عند التعامل مع الأشخاص والأشياء.
"طلب الحقيقة من الواقع" هو السلاح السحري الأيديولوجي لحكم وإدارة البلاد والنهوض بالوطن في العصور القديمة والحديثة. وكفكر فلسفي مهم للثقافة الصينية التقليدية، كان الضمان الأيديولوجي لاستقرار وازدهار البلاد في العصور القديمة، وهو أيضا الدعم الأيديولوجي لحكم وإدارة للحزب الشيوعي الصيني اليوم. في عملية الجمع بين المبادئ الأساسية للماركسية والواقع للثورة الصينية واستكشاف طريق الثورة الصينية، صقل ماو تسي تونغ فكرة "طلب الحقيقة من الواقع" في الثقافة الصينية التقليدية. وفي تقرير له بعنوان "تحويل تعليمنا" في فترة يانآن، قدم تفسيرا جديدا لـ"طلب الحقيقة من الواقع"، جاء فيه: "الواقع" هو كل الأشياء الموجودة بموضوعية، و"الحقيقة" هي العلاقة الداخلية للأشياء الموضوعية، أي طبيعة الانتظام، و"طلب" هو ما ندرسه. كما تم تأسيس "طلب الحقيقة من الواقع" كخط أيديولوجي للحزب الشيوعي الصيني، والذي لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا. لقد أثبتت الممارسة التاريخية أنه ما إذا كان بإمكاننا "طلب الحقيقة من الواقع" أم لا هو مفتاح نجاح أو فشل جميع أعمال حزبنا ودولتنا. كان السبب الأساسي وراء الانعطافات العديدة التي شهدتها الصين في الأيام الأولى للبناء الاشتراكي هو أن تفكيرها في ذلك الوقت كان منفصلا بشكل خطير عن الواقع الملموس بأن الصين كانت لا تزال في المرحلة الأولى من الاشتراكية وانحرفت عن تقليد "طلب الحقيقة من الواقع"، والتي جلبت لنا دروسا عميقة. وبعد الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني، رفع دنغ شياو بينغ الراية الأيديولوجية "طلب الحقيقة من الواقع" مرة أخرى، وفتح طريق الإصلاح والانفتاح، وشدد على أنه يتعين على كل دولة أن تتبع طريقها الخاص وفقا لخصائصها وظروف بلدها. اليوم، لا يمكننا نسخ ممارسات الدول الغربية ولا الدول الاشتراكية الأخرى، بل من الضروري دمج الحقيقة العالمية للماركسية مع الواقع الخاص للصين مع الثقافة التقليدية الممتازة للصين لبناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.
"طلب الحقيقة من الواقع" هو موضوع مهم للغاية في تاريخ الثقافة الصينية، والتي تطورت من موقف علمي إلى الخط الأيديولوجي الأساسي وخط العمل للحزب الشيوعي الصيني، وتعكس عملية تطور معناها استمرار وابتكار الروح الوطنية الصينية. من فكر ماو تسي تونغ خلال الثورة، إلى نظرية دنغ شياو بينغ في فترة الإصلاح والانفتاح، إلى فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، "طلب الحقيقة من الواقع" هو الخط الأيديولوجي الذي اتبعه الحزب الشيوعي الصيني دائما. إن التمسك بمبدأ "طلب الحقيقة من الواقع" هو سلاح سحري مهم للحزب الشيوعي الصيني لقيادة الشعب لتحقيق انتصارات مستمرة في قضية الثورة والبناء والإصلاح. وقد شدد الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن "جميع إنجازاتنا في الماضي استندت إلى طلب الحقيقة من الواقع. في العصر الجديد، في مواجهة الأوضاع الجديدة والمشكلات الجديدة والتحديات الجديدة، لا يزال الحزب الشيوعي الصيني متمسكا بالخط الأيديولوجي المتمثل في "طلب الحقيقة من الواقع"، ويعدل سياسات الصين بشكل ديناميكي وفقا للظروف الوطنية للصين والتغيرات في العالم الخارجي، ويعمق باستمرار إصلاح الأنظمة والآليات، ويحسن باستمرار نموذج الحوكمة الوطنية، ويسعى جاهدا لدفع النهضة العظيمة للأمة الصينية قُدما على نحو شامل من خلال التحديث الصيني النمط.
--
سونغ تشن تشونغ، باحث في قاعدة أبحاث التبادل والتعلم المتبادل بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد بحوث كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ.