ثقافة وفن < الرئيسية

وحدة السماء والإنسان

: مشاركة
2024-12-16 16:01:00 الصين اليوم:Source ليو جيان شيون:Author

مفهوم "وحدة السماء والإنسان" قيمة روحية مشتركة يسعى إليها الصينيون على مر العصور، مستمر عبر جميع مراحل التطور التاريخي للصين، ويحتل مكانة مهمة في الثقافة الصينية التقليدية الممتازة. في الوقت نفسه، هذا المفهوم هو أيضا حكمة صينية تساهم بها الحضارة الصينية للبشرية جمعاء. ذكر الرئيس الصيني شي جين بينغ غير مرة مفهوم "وحدة السماء والإنسان" في العديد من المناسبات المهمة داخل البلاد وخارجها، على سبيل المثال، في الرابع من مايو عام 2014، عندما قام الرئيس شي جين بينغ بجولة تفقدية في جامعة بكين، قال في ندوة للمعلمين والطلاب: "اليوم، عندما ندعو ونطور مفهوم القيم الجوهرية الاشتراكية، يجب أن نستمد العناصر الأساسية الغنية من الثقافة الصينية التقليدية الممتازة، وإلا فلن تكون لها حيوية وتأثير." وذكر الرئيس شي العديد من الأفكار والمفاهيم الجوهرية في الثقافة الصينية التقليدية الممتازة، بما في ذلك "وحدة السماء والإنسان".

أول من صاغ هذا المفهوم هو العالم الكونفوشي لأسرة سونغ الشمالية (960-1127) تشانغ تساي، في كتاب ((تشنغمنغ)). النص الأصلي هو: "يسعى علماء الكونفوشية إلى الإخلاص من خلال الفهم، ويسعون إلى الفهم من خلال الإخلاص، وبالتالي يحققون وحدة السماء والإنسان." العلاقة بين "السماء والإنسان" قضية مهمة في الفلسفة الصينية التقليدية. "السماء" تشير إلى الطبيعة وانتظام عمل الطبيعة، إلخ. أما "الإنسان" فيقصد به الشخص الطبيعي والمجتمع البشري والمعايير الأخلاقية والروح الذاتية، إلخ. يشير مفهوم "وحدة السماء والإنسان" إلى الانسجام والوحدة بين الإنسان والسماء والأرض والطبيعة. ويؤكد أن الإنسان يجب أن يعود إلى الطبيعة ويتوافق مع قوانين الكون من أجل تحقيق حالة من الانسجام والتنمية الشاملة.

يمكن إرجاع مفهوم "وحدة السماء والإنسان" إلى أساطير العصور القديمة، ومنها أسطورة "بان قو" يفصل الأرض عن السماء. تذهب الأسطورة إلى أن الدنيا كانت في حالة من الفوضى الأزلية ومظلمة من الداخل وتشبه بيضة كبيرة وولد فيها "بان قو" الذي فصل السماء عن الأرض ووقف بينهما رافعا السماء برأسه وواضعا الأرض تحت قدميه. كان طول "بان قو" يزداد يوما بعد يوم واستمر الحال على هذا النحو ثمانية عشر ألف سنة، حتى باتت المسافة بين الأرض والسماء شاسعة، وأصبح "بان قو" ماردا عملاقا. بعد موت "بان قو" تحولت عيناه إلى الشمس والقمر وصارت أطرافه الجبال، أما دمه فأصبح البحار والأنهار والبحيرات، وتحولت أوتاره وشرايينه إلى الطرق، أما لحمه فأصبح الحقول وصار شعر رأسه النجوم وصار جلده وشعر جسمه زهورا وعشبا وشجرا وتحول عظمه إلى معادن وأحجار، أما نفَسُه فتحول إلى ريح وسحب متقلبة، وصارت عروقه مطرا وندى يرويان المخلوقات. يمكن القول إن "بان قو" استخدم جسده لاستحضار العالم كله.

إن "بان قو"، بصفته الخالق، تجسد أفعاله ووجوده وحدة السماء والإنسان، وقد خلق العالم بجسده، فنشأت علاقة سحرية وعميقة بين الإنسان والطبيعة.

بالإضافة إلى ذلك، ثمة أساطير أخرى مثل الإلهة "نيوي وا" تخلق البشر، تتضمن أيضا مفهوم "وحدة السماء والإنسان". تقول هذه الأسطورة إن "نيوي وا" خلقت البشر من التربة الصفراء، وفي رواية أخرى من الطين، مما جعلهم جزءا من الطبيعة. تجسد جميع هذه الأساطير احترام الطبيعة والرغبة في العيش في وئام معها.

على الرغم من أن كونفوشيوس، المفكر العظيم في الصين القديمة ومؤسس الكونفوشية، لم يستخدم بشكل مباشر مصطلح "وحدة السماء والإنسان" لشرح أفكاره، فإن العديد من تعاليمه وقصصه تحتوي على مفهوم التعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة والكون، والذي يتماشى مع روح "وحدة السماء والإنسان". على سبيل المثال، قال كونفوشيوس ذات مرة: "السماء لا تقول أي شيء، لكن الفصول الأربعة؛ الربيع والصيف والخريف والشتاء، لا تزال تعمل، وكل الأشياء تنمو بطريقتها." هنا، من خلال مراقبة تغيرات الفصول الأربعة ونمو كل الأشياء، أدرك كونفوشيوس أن الطبيعة لها القوانين الخاصة التي تحكمها، وأن البشر يجب أن يحترموا الطبيعة، وأن يمتثلوا لتلك القوانين، وأن يعيشوا في وئام مع الطبيعة. شيونتسي، وهو مفكر كونفوشي، تحتوي أفكاره أيضا على الكثير من محتوى مفهوم "وحدة السماء والإنسان". قال ذات مرة: "طرق عمل الطبيعة ثابتة، لا تسود بفضل الإمبراطور ياو الحكيم؛ ولا تزول بسبب الإمبراطور جيه الطاغي." واعتقد أن قوانين الطبيعة موضوعية ومستقلة عن إرادة الإنسان، ولا تتغير بسبب الخير والشر، أو الحكمة والحماقة، أو السلوك الجيد أو السيئ للبشر"، مذكرا الناس باحترام الطبيعة والامتثال لقوانين الطبيعة. في الوقت نفسه، دعا شيون تسي أيضا إلى أن البشر يجب ألا يطيعوا الطبيعة بشكل سلبي، ولكن يجب أن يمارسوا بنشاط مبادرتهم الذاتية لاستكشاف واستخدام أسرار الطبيعة.

تحتوي عقيدة المدرسة الطاوية أيضا على ثروة من الأفكار حول "وحدة السماء والإنسان". اعتقد لاو تسي، مؤسس المدرسة الطاوية، أن "الداو" هو أصل الكون، ودعا إلى أن يشكل الإنسان نفسه على غرار قوانين الأرض، وأن تشكل الأرض نفسها على غرار قوانين السماء، وأن تشكل السماء نفسها على غرار قوانين الداو، وأن يشكل الداو نفسه على غرار قوانين الطبيعة. من وجهة نظر لاو تسي، كل الأشياء في الدنيا تتحرك في دورات، حيث تكمن فيها طريقة عمل الطبيعة، أي قوانين الطبيعة، التي يهيمن على السماء والأرض والإنسان، وتكون موجودة في كل مكان وفي جميع الأوقات. لذلك، فقط من خلال الامتثال لقوانين الطبيعة والسعي إلى عالم "وحدة السماء والإنسان" يمكننا تحقيق التنمية المستدامة. وجهة نظر تشوانغ تسي، الذي يعتبر ممثلا ثانيا بعد لاو تسي للمدرسة الطاوية، حول "وحدة السماء والإنسان" واضحة للغاية، كما قال في كتاب ((تشوانغ تسي)): "السماء والأرض تتعايشان معي، وكل الأشياء في الدنيا تتحد معي." بمعنى آخر، الإنسان ليس فردا معزولا، ولكنه يشكل مع كل الأشياء في السماء والأرض كلا متناغما وموحدا. تجسد هذه الفكرة مفهوم تشوانغ تسي عن "وحدة السماء والإنسان"، أي أنه يجب على الإنسان أن يتوافق مع قوانين الطبيعة، وأن يحافظ على علاقة متناغمة مع كل الأشياء في السماء والأرض، وأن يحقق السلام الداخلي والهدوء. بالإضافة إلى ذلك، يتضمن كتاب ((تشوانغ تسي))، قصة عن تشوانغ تسي نفسه الذي حلم بأن يصبح فراشة. ذات يوم، حلم تشوانغ تسي بأنه أصبح فراشة ترقص بين الزهور وترفرف بجناحيها، تقف هنيهة على هذه الزهرة ثم تطير إلى زهرة أخرى، بحرية وأريحية. في الحلم، شعر تشوانغ تسي أنه كان يجب أن يكون فراشة، ولم يتذكر أنه كان تشوانغ تسي على الإطلاق. لذلك عندما استيقظ من حلمه، كان كما لو أنه في غيبوبة، وفكر في نفسه: هل تشوانغ تسي يحلم بأنه أصبح فراشة، أم أنه هو نفسه فراشة تحلم بأن تصبح تشوانغ تسي؟ تجسد هذه القصة أيضا فكرة تشوانغ تسي المتمثلة في "وحدة السماء والإنسان"، حيث لا يستطيع التمييز بين ذاته وبين المخلوقات الأخرى في الطبيعة، ويشعر أنه وكل الأشياء متشابكة، وأنه جزء من الطبيعة، وأن الطبيعة هي أيضا جزء منه. لذلك، أكد على التعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة، ودعا إلى أن الإنسان يجب أن يتوافق مع قوانين الطبيعة ويسعى إلى الحرية الداخلية والتحرر الطبيعي.

منذ آلاف السنين، تم توارث مفهوم "وحدة السماء والإنسان" وتطويره باستمرار، وكان له تأثير عميق على المجتمع الصيني القديم، وهو ما ينعكس في الفلسفة والسياسة والأدب والفن والعديد من الجوانب الأخرى. على سبيل المثال، يؤكد المفهوم على انسجام ووحدة الإنسان والطبيعة، وأن الناس يجب أن يتوافقوا مع قوانين الطبيعة وأن يحققوا التهذيب الذاتي أخلاقيا. كان لهذا الفكر تأثير عميق على الفلسفة الصينية، وخاصة الكونفوشية والطاوية والبوذية، وشكل تقليدا ثقافيا للتأكيد على التهذيب الذاتي أخلاقيا والسعي لتحقيق الانسجام الداخلي.

قال السيد تشيان مو، المؤرخ الصيني في العصر الحديث، ذات مرة، إن مفهوم "وحدة السماء والإنسان" هو أعظم مساهمة قدمتها الثقافة الصينية للبشرية. في العولمة اليوم، لا يزال مفهوم "وحدة السماء والإنسان" له أهمية عملية مهمة. إنه يذكر الناس باحترام الطبيعة والتوافق مع قوانين الطبيعة والتعامل مع العلاقة بين الإنسان والطبيعة بطريقة متناغمة. في الوقت نفسه، فإن التسامح والانسجام في مفهوم "وحدة السماء والإنسان" يوفران أيضا تنويرا مفيدا لحل المشكلات الاجتماعية المعاصرة. على سبيل المثال، إن فكر شي جين بينغ حول الحضارة الإيكولوجية متجذر في الثقافة الصينية التقليدية الممتازة، ويرث التقاليد الثقافية مثل "وحدة السماء والإنسان" و"الداو نفسه يتشكل على غرار قوانين الطبيعة" و"استخراج الموارد من الطبيعة بحد معين"، إلخ، وينفذ تحوله الخلاق وتطوره المبتكر، ويجسد جوهر الثقافة الصينية والروح الصينية، ويساهم بالحكمة الصينية والحلول الصينية للتنمية المستدامة للبشرية.

--

ليو جيان شيون، باحث مساعد في قاعدة أبحاث التبادل والتعلم المتبادل بين الحضارات الصينية والأجنبية بمعهد بحوث كونفوشيوس في مدينة تشيويفو بمقاطعة شاندونغ. 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4