تعد الصين واحدة من أقدم حضارات العالم، وقد أسهمت بشكل كبير في تطور الفكر البشري عبر العصور. ومنذ العصور الإسلامية المبكرة وحتى العصر الحديث، كانت الصين موضوعا مهما في الأدب العربي. هذا التصور التاريخي للصين في الأدب العربي يتراوح بين الخيال والأسطورة والتوثيق الواقعي، ويعكس العديد من التحولات السياسية والثقافية والفكرية التي مرت بها العلاقات بين العرب والصينيين. في العصور الإسلامية المبكرة، كانت الصين تمثل "أقصى الشرق" بالنسبة للعرب، وأحد أقاليم العالم التي يحيط بها الغموض. لم يكن لدى العرب معلومات دقيقة عن الصين، لكنهم كانوا على دراية بأهميتها الاقتصادية والثقافية. وقد انعكس هذا الغموض في الأدب العربي الذي ضم الكثير من القصص والأساطير عن الصين. إن الصين قد عرفت العرب منذ القرن الثاني قبل الميلاد، منذ رحلة المبعوث الصيني تشانغ تشيان إلى الغرب في عصر الإمبراطور هان وو دي، ثم كان بناء طريق الحرير المعروف، ثم تبعه طريق الحرير البحري أو ما يعرف باسم طريق التوابل، ليتدفق التجار على الصين بأعداد كبيرة وتشهد التجارة بين الأمتين ازدهارا عظيما، وقد كان من البديهي أن يحمل التجار من الجانبين مع بضائعهم ثقافة بلادهم وآدابها لينتعش التبادل الأدبي والثقافي يوما بعد يوم.
تضمن كتاب سجلات المؤرخ الكبير سيما تشيان، بعض الكلمات التي كان يقصد بها العرب، مثل ترجمات صوتية لكلمات مثل "تاجيك" أو "تازي" أو "طازي"، وكلها ترجع إلى لفظ "طيء"، وهي القبيلة التي هاجرت من اليمن إلى شمالي الجزيرة، وتعد هذه هي أقدم تسجيلات عن العرب، وفي كل من الكتب القديمة سواء العربية أو الصينية تسجيلات عن الآخر. ومن الكتب الصينية القديمة هناك ((كتاب هان)) و((كتاب هان اللاحقة) و((سجل الاستدراكات)) و((تونغديان)) و((كتاب تانغ القديم))، ومن الكتب العربية التي جاء فيها ذكر للصين هناك ((مروج الذهب)) للمسعودي، ((ورحلة ابن بطوطة)) و((رحلات سليمان السيرافي))، وكتاب ((الفهرست)) لابن النديم. وفي قصة ((صاحبة خان الجسر الخشبي))، والتي فيها تستخدم صاحبة الخان الخدم، لحرث الأرض وبذر البذور وسقي الزرع وجمع عيدان القمح وعجن الدقيق وصناعة الفطائر، ثم تضعها للضيوف فيتحولون جميعا بعد أن يأكلوها إلى حمير، أن هذه القصة جاء بها التجار العرب إلى الصين، ويمكن العثور على أدلة على ذلك في الأدب العربي، حيث يرى الباحثون الصينيون أن هذه القصة دليل على تأثر الأدب الصيني بالأدب العربي، وأنه بالمثل تأثر الأدب العربي بالأدب الصيني، فمثلا في قصة ((سو إي يحصل على الذهب من بيت الأشباح)) والواردة في كتاب ((العجائب)) لصاحبه قو شين تسي لها مثيل في ألف ليلة وليلة، وبعض الباحثين يرون أن هذه القصة الصينية قد وصلت إلى العرب مع الصورة المشرقة لمدينة تشانغآن في فترة أسرة تانغ. وفي عام 1890 ترجم ما آن لي ((البردة)) للبوصيري، ونشر في مدينة تشنغدو نسخا مطبوعة لها على ألواح خشبية باللغتين العربية والصينية، وبسبب تقليد ترجمة القصيدة لكتاب الشعر الصيني الكلاسيكي ((كتاب الشعر)) وطريقته في تقسيم الشعر إلى أربع شطرات أطلق على النسخة الجديدة من ترجمة ((البردة)) ((كتاب الشعر العربي)). وكانت هذه هي أول قصيدة عربية تترجم إلى الصينية.
هناك قواسم مشتركة كثيرة بين المسيرة التاريخية للصين والمسيرة التاريخية للبلدان العربية، ولذلك عندما يشرع العرب في اختيار الأعمال الأدبية العربية التي تقدم للقارئ الصيني، لا بد وأن اختيار الموضوعات سيلقى تعاطفا وتجاوبا منه، مثل النضال من أجل التحرير الوطني، وقضايا الريف والأرض، والأعراف الإقطاعية، والقيود على النساء، تلك الأعمال الأدبية التي تصور المجتمع والأسرة والحياة، وتستكشف الفلسفة والرمزية وغير ذلك. لقد بدأ عالم الأدب الصيني ينتبه للأدب العربي الحديث في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، فترجمت أعمال لجبران خليل جبران وطه حسين ومحمود تيمور وقليل من الأدب القديم والحديث، وفي الخمسينيات ترجمت رواية الكاتب اللبناني جورج حنا ((كهان الهيكل))، والمجموعة القصصية ((دماء لا تجف)) للكاتب المصري عبد الرحمن الخميسي، ثم ((عودة الروح)) للكاتب المصري توفيق الحكيم، و((الأرض)) للمصري عبد الرحمن الشرقاوي، و((هاتف المغيب)) للمصري جمال الغيطاني، و((المصابيح الزرق)) للسوري حنا مينا، و((موسم الهجرة إلى الشمال)) للسوداني الطيب صالح، و((رجال تحت الشمس)) للفلسطيني غسان كنفاني، و((الخبز الحاف)) للمغربي محمد شكري، و((ريح الجنوب)) للأديب والروائي الجزائري المعاصر عبد الحميد بن هدوقة في الثمانينات، والمجموعة القصصية ((طرب)) للكاتبة السعودية الأميرة مها محمد الفيصل وغيرها.
كانت الصين منذ آلاف السنين في السرديات المتداولة بين الناس، مرادفا للغموض والأساطير الغرائبية. استمرت الصين فعلا لسنين عدة، ذلك الكائن الغامض في الأدبيات العربية، ولا يُعرف عنها إلا القليل، المتعلق باكتشاف الطباعة والورق، غير أن أدباء ومفكرين ورحالة عدة على مدى التاريخ العربي الإسلامي، استطاعوا بعد تلك الفترة أن يقدموا من خلال ما دونوه، معلومات، يمكن قراءتها بشكل عام في إطار المعرفة الثقافية المتعلقة بالصين وتطور المجتمع والحضارة فيها، والعلاقات التي ربطتها بالعرب منذ وقت مبكر في ذلك المجال.
ويفيد الرجوع إلى تلك "المدونات"، التي كتبها البعض من أمثال الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والرحالة الأشهر ابن بطوطة عن الصين، أهمية فائقة في إطار فهم هذه الثقافة القادمة بقوة في السنوات القادمة. يتميز ما ظهر في تلك "المدونات" في أنها تخلصنا إلى حد كبير من النظرة الغرائبية المندهشة، والتي تتعامل مع الصين وكأنها كائن أسطوري قادم من المريخ مثلا، أو تتعامل معها من منطلق أقرب للكتابة السياحية منها للتأمل الثقافي العميق.
رؤى متعددة
إن رؤية العرب للصين وحكمتها أو ثقافتها، اختلف بحسب اطلاعهم ومقاربتهم عن قرب للواقع الثقافي الصيني. حيث قال أبو حيان التوحيدي إن الصين أمة متفوقة على المستوى الحِرفي، أو أن "حكمتها يدوية" ويعبر عن ذلك في كتابه ((المقابسات))، حين يقول على لسان أستاذه في ميدان الفلسفة أبو سليمان المنطقي: "نزلت الحكمة على رؤوس الروم، وألسن العرب، وأيدي الصينيين". فقد أعطى صورة عما سماه الحكمة الصينية والتي تدل حسب تصنيفه لها بأنه لم تُبن من فراغ، بل أتت من خلال الممارسة اليدوية والبراعة فيها. إن اليد الصينية في كلام التوحيدي، تبدو مرادفة للرأس الرومي واللسان العربي، وهو ما يجعلها في المعنى ليست تعبيرا عن مجرد حِرفية الصين العظيمة، بل هي تعبير عن ارتباط تلك الحرفية بحكمة وفكر يحركانها؛ بحيث يجعلها ذلك تصنيفا ثقافيا معرفيا للصين ولحضارتها، ويترك خلفه انطباعا حيا يعكس تركيبة الثقافة هناك وقوتها.
والملاحظة البارزة هنا أن ذلك الاختصار الذي تعامل به التوحيدي مع "الحكمة" الصينية، جسده تقريبا بنفس المعنى كاتب من أشهر كتاب الأدب العربي وهو الجاحظ، والذي لم يشتهر فقط بأنه مجرد كاتب ومؤلف، ومن أبرع البلغاء في اللغة العربية، بل اشتهر كذلك بوصفه قارئا نهما ومطلعا على أحوال أمم عدة وحضارات كثيرة وثقافاتها، ومع هذا فهو يقول عن الصين وثقافتها: "إن كل أمة امتازت بشيء، فأهل الصين في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب"، ثم في موضع آخر مما كتبه في نفس الموضوع يفصل قليلا ليقول: "فأما سكان الصين، فإنهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والتصاوير، والنسج والخط، ورفق الكف في كل شيء يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه."
إن تلك النظرة التي ربطت بين حكمة الصين وإجادتها للصناعات، سادت لفترة مهمة في الأدبيات العربية التي اهتمت بالتعرف على الصين، فبقي وجه المعرفة الثقافية بالصين محصورا في وصفها بالأمة البارعة في الصناعة، وهو نفس الشيء الذي نجده عند ابن صاعد الأندلسي في مؤلفه، الذي اهتم فيه بأمم عدة من بينها الصين ويحمل عنوان "طبقات الأمم" حين يقول متحدثا عن الصينيين: "حظهم من المعرفة التي بزوا فيها سائر الأمم إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن التصويرية، فهم أصبر الناس على مطاولة التعب، وتجويد الأعمال، ومقاساة النصب في تحسين الصنائع." فهو يتحدث عن المواطن الصيني وعن تعامله مع الظروف العملية.
ويبقى المجهود الحقيقي، الذي يعتد به ويعتبر أول تعريف وتعرف على أنماط الثقافة الصينية وامتداداتها، هو ما أنجزه الرحالة "ابن بطوطة"، كما يقول الكاتب هادي العلوي في كتابه "المستطرف الصيني"، ويشرح العلوي ذلك في مقدمة كتابه مبينا أن ما عرفه المسلمون عن حضارة الصين يزيد على المعروف منها لدى الناس في الماضي قائلا: "إن ما نقله ابن بطوطة عن الصين يتفوق على أوصاف ماركو بولو، الذي استعسر عليه التقاط الأساسيات الحضارية لبلاد لم يكن يملك الاستعداد المسبق للتعامل معها على هذا المستوى بسبب قدومه من بيئة مختلفة."
لقد حكى ابن بطوطة من واقع رحلته إلى الصين وفي كتابه الشهير ((تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)) عن أوجه ثقافية ومعرفية جديدة لم يتطرق إليها أحد من قبل، وهو ما يؤكد أنه كان فريدا وعميقا في نظرته للصين وتبيان المسكوت عنه أو المجهول من تاريخها وعادات سكانها وثقافتهم، وتعد مشاهداته في بلاد الصين من بواكير ما عرفناه عن أحوال المسلمين في تلك البلاد بعد سماح أسرة سونغ في القرن الرابع الهجري، بإقامة جاليات من التجار المسلمين واهتمام أسرة يوان بتنظيم العلاقات التجارية بين الصين والبلاد الإسلامية. كما ذكر ابن بطوطة غير مرة أن الصين أكثر البلاد أمنا وأحسنها حالا للمسافرين، وفي هذا يقول: "يسافر فيها من يريد منفردا مسيرة تسعة أشهر ومعه الأموال الطائلة والتجارات فلا يخاف عليها." وحسب رواية ابن بطوطة، فإنه وفد على الصين ضمن وفد أرسله ملك الهند محمد تغلق شاه محملا بهدايا ثمينة، واستطاع ابن بطوطة، أن يصل في رحلة بحرية، وبعد حوادث عدة إلى ميناء تسيتونغ أو "تشوانتشو" الآن، وأشار إليها في كتابه باسم مدينة الزيتون.
أما في كتاب ((المسالك والممالك)) من تأليف الجغرافي العربي الشهير ابن خرداذبة، فقد ذُكرت الصين بشكل متكرر في إطار الحديث عن الطرق التجارية والبلدان التي تقع في أقصى الشرق. يُعتبر هذا الكتاب من أقدم المصادر التي توثق الرحلات والمعلومات الجغرافية حول البلدان المختلفة في العالم المعروف في ذلك الوقت. كما أشار ابن خرداذبة إلى الصين باعتبارها واحدة من أهم وجهات التجارة، وذكر طرق الوصول إليها عبر آسيا، مثل طريق الحرير الذي يمر عبر العديد من البلدان وصولا إلى الصين. وكان يعتقد أن الصين هي بلاد نائية للغاية في أقصى الشرق، وكانت تعرف بالاسم العربي "الصين" أو "البلاد الصينية". كما كان يصفها بأنها دولة عظيمة ومتقدمة في مجالات مختلفة، مثل الزراعة والفنون. كما تحدث أيضا عن التجارة مع الصين، مشيرا إلى أن العديد من السلع مثل الحرير، والتوابل، والأحجار الكريمة كانت تصل إلى بلاد المسلمين عبر هذه الطرق.
امتلك العرب، منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث، متخيلا عاما وتراكما معرفيا غنيا عن الصين، انعكست فيه صورة زاهية عن الحضارة الصينية والشعب الصيني، مفعمة بالحماسة والإعجاب، وربما ساعد على تكوين هذه الصورة القول المأثور "اطلبوا العلم ولو في الصين" الذي حمل في طياته الإشارة إلى بُعد الصين، وإلى ما تختزنه من علوم.
أما الأدب العربي الحديث، فلم يخل من الذكر للصين على أيدي كبار الأدباء العرب، منهم جبران خليل جبران، الذي وضع الفيلسوفين الصينيين القديمين كونفوشيوس ولاو تسي في مقدمة الأبطال الذين تقرره فكرته كما وردت في مقالته بعنوان "لكم فكرتكم ولي فكرتي"؛ ومنهم ميخائيل نعيمة الذي يولع بالفكر الطاوي للفيلسوف لاو تسي بشكل خاص، وكتب عنه مقالة جميلة بعنوان "وجه لاو تسي"؛ وبدر شاكر السياب، الذي كتب قصيدة "من رؤيا فوكاي"، مستوحاة من أسطورة شعبية صينية؛ وعبد الوهاب البياتي الذي عبر عن إعجابه بالثورة الصينية والزعيم الصيني في قصيدة بعنوان "إلى الشاعر ماو تسي تونغ"؛ ونزار قباني الذي ذكر كلمة الصين في قصائده أكثر من عشر مرات، كما في هذه الأبيات الشهيرة:
"أنا أحبك يا من تسكنين دمي
إن كنت في الصين،
أو كنت في القمر."
ومنهم أيضا الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح الذي كتب قصيدة بعنوان "قبلة إلى بكين"؛ والروائي اليمني محمد عبد الولي، الذي كتب قصة قصيرة بعنوان "طريق الصين"، تناول فيها قصة المهندسين والعمال الصينيين الذين ساعدوا اليمن على شق طريق جبلي يربط بين صنعاء ومدينة الحديدة؛ والروائي السوري حنا مينا، الذي كتب ثلاثية روائية ((حدث في بيتاخو))، بناء على سنوات قضاها في الصين كخبير اللغة العربية في دار النشر باللغات الأجنبية في بكين، مع العلم أن بيتاخو هو ترجمة صوتية لمصيف ساحلي مشهور قرب بكين. كما قام العديد من الشعراء والكتاب العرب الكبار بزيارات إلى الصين، تلبية لدعوات من جامعات صينية أو أصدقاء صينيين منهم الأديب المصري جمال الغيطاني، الذي زار الصين عام 2008، وسجل انطباعاته عن الزيارة في مقالة جميلة ضمها في كتابه ((مقاصد الأسفار))؛ ومنهم الشاعر العراقي سعدي يوسف، الذي نشر كتيبا بعد زيارته للصين بدعوة من شاعر صيني صديق له، وعنوان الكتيب "ثلاث مدن، ثلاثة أسابيع في الصين"؛ ومنهم أيضا الأديب السوري علي عقلة عرسان الذي زار الصين مرات وكتب كتابا بعنوان "الصين.. علاقات، قراءات، مشاهدات"؛ والشاعر المصري عبد المعطي حجازي، والكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، وغيرهم ممن كتبوا رحلات أو مقالات عن الصين.
أما الشاعر السوري أدونيس، حيث كانت أول زيارة له إلى الصين في ثمانينات القرن الماضي. وفي سنة 2009، زار الصين بمناسبة صدور أول ديوان له مترجما إلى اللغة الصينية ((عزلتي حديقة))، وذلك أيضا بفضل جهود صديقه الحميم البروفيسور شيويه تشينغ قوه الذي سعى إلى ترجمة هذا الديوان والتعريف به. حيث صدر لأدونيس كتابه الشعري الجديد "أوسْمانْتوس"، الذي يضم خمسين قصيدة، استوحاها من رحلة له في الصين، لا سيما في جبل هوانغشان (الجبل الأصفر)، المشهور بمشاهد طبيعية بديعة. لم يكن أدونيس هناك سائحا، وإنما صاحب العقل المتفكّر، المتأمل في الأشياء والوجود والعالم، وكان أهم ما يميز قصائده هو اختياره شجرة الأوسمانتوس، ليس فقط عنوانا للمجموعة الشعرية المثيرة، وإنما معنى وروحا وجمالا في حضورها الكثير في القصائد.
يتابع أدونيس أدق التغيرات في هذه الدولة بعين الشاعر. حيث وصف بكين في يومياته: "حقا، مدخل مطعم بسيط. مخزن صغير لبيع منسوجات حريرية وقطنية. مفرق شارع تتزاحم فيه، بنظام ودقة، سيارات من كل نوع. سقف قرميدي، عمارة حديثة زجاجية. أبراج. أشجار لا أعرف أسماءها. فتيات تحاول كل منهن أن تجذبك، بوصفك أجنبيا، إلى دخول حانوتها. لؤلؤة وجاد وأحجار تكاد أن تكون كريمة. تماثيل: تنين هنا، عنقاء هناك… حقا، هذه كلها يمكن أن تكون فاتحة لكتاب في الدهشة، أو مقدمة لدراسة الفرق بين ما ينتهي وما لا نهاية له." واستكمل أدونيس: "هُبّي يا رياح كونفوشيوس، وأنتِ كذلك هُبي أيتها الروائح البوذية والطاوية. وقولي لكل محسوس أن يفتح لنا ذراعيه."
سار أدونيس في شوارع بكين، وأخذ يتأمل أهل المدينة القديمة في ذهابهم وإيابهم، فقال: "وليس صخب الشوارع والأزقة إلا هدير حياة تتموج آتية من ينابيع لا تعرف أن تميز فيها بين مائها القديم ومائها الجديد. رجال ونساء، أطفال وشيوخ يخرجون من هذه الينابيع، ينظرون إليك، ويبتسمون لك، وتشعرُ كأنهم يحبّون أن يرافقوك في سيرك."
جسور الثقافة.. التفاعل المستمر بين الصين والعالم العربي
يعد التفاعل بين الثقافتين العربية والصينية من أعمق وأكثر العلاقات الثقافية التي تمتد عبر العصور وتغذيها رحلة من التبادل المستمر بين الأفكار والتقاليد. منذ العصور القديمة، حيث بدأت أولى الحوارات عبر طريق الحرير، مرورا بالتراجم الأدبية والفكرية التي جسدت تأثر كل طرف بالآخر، وصولا إلى العصر الحديث، تتجسد هذه العلاقة في أعمال أدبية وفكرية متعددة، تهدف إلى نقل الحكمة وثراء التجارب الإنسانية من قلب الشرق إلى أطرافه. هذا التفاعل لم يكن مجرد صلة سطحية، بل كان محركا من محركات التجديد في الفكر العربي والصيني، حيث وجد الأدباء والمفكرون من الطرفين في ثقافة الآخر مصدرا لإلهام فكري وسردي، يعزز فهمهم لذاتهم وللعالم المحيط بهم.
وفي ظل هذه العلاقة الثقافية العميقة، لم تكن اللغة وحدها هي الوعاء الذي حمل الأفكار والمشاعر، بل كانت الرموز والمفاهيم المشتركة التي ربطت بين العقول والقلوب. ومن خلال الكتب والمخطوطات، جسد الأدب العربي والصيني تجارب شعوب عريقة في مواجهة الحياة بكل أبعادها، من الحب والفقدان إلى الكفاح من أجل العدالة والحرية. ولم يكن هذا التبادل الثقافي محصورا في زمن أو مكان، بل امتد عبر أجيال ليشكل أرضية خصبة للابتكار والتطور الفكري.
وعلى الرغم من التحديات التي تطرأ من وقت لآخر، تظل هذه العلاقة الثقافية ركيزة أساسية في بناء جسور من التفاهم بين الأمم والشعوب. إنها علاقة تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية لتؤكد أن الثقافات مهما اختلفت في لغاتها وعاداتها، فإنها تظل في النهاية متشابكة في شبكة من القيم الإنسانية المشتركة. إن استمرار هذه الحوارات والتبادلات الثقافية بين العرب والصينيين هو الذي سيضمن الحفاظ على هذه الجسور الثقافية وتعميقها في المستقبل، ليكون هذا التفاعل المستمر دافعا للسلام والتعايش بين الشعوب، ولتظل الثقافة المشتركة منارة تشع بالأمل والفهم المتبادل.