ثقافة وفن < الرئيسية

فلسفات الحياة والنجاح.. كيف تمتزج الحكمة العربية والصينية مع علم النفس الإيجابي؟

: مشاركة
2025-05-16 16:45:00 :Source عبد الله العفاس:Author

عندما يعانق الفكر الزمن.. تأملات بين الثقافات

حين وطأت قدماي الصين لأول مرة منذ ما يقرب من 19 عاما، لم يكن الأمر مجرد انتقال إلى بلد جديد، بل كان بداية رحلة استكشاف فكرية وثقافية عمّقت فهمي للعقل الإنساني والحكمة التي شكلت حياة الشعوب على مر العصور. لطالما كنت شغوفا بالدراسات النفسية، ولم يكن مجرد تعلم النظريات الحديثة كافيا بالنسبة لي، بل كنت دائم البحث عن أوجه التشابه بين الثقافات المختلفة، وكيف يمكن لهذه الفلسفات المتباعدة جغرافيا أن تلتقي في نقاط عميقة وجوهرية.

كيف استطاعت الحضارات العريقة، مثل الحضارتين العربية والصينية، أن ترسم ملامح النجاح على مر القرون؟ وهل يمكن أن نجد في علم النفس الإيجابي تفسيرا علميا لبعض المفاهيم التي رسختها هذه الثقافات منذ آلاف السنين؟

لم أكن أتوقع أن أجد إجابات تجعلني أعيد النظر في فهمي للحياة والتطوير الذاتي. ولكن مع مرور الوقت وخلال 14 عاما من البحث النفسي وتجربتي الطويلة في الصين، وجدت أن هناك خيطا غير مرئي يربط بين الثقافة العربية، والثقافة الصينية، وعلم النفس الإيجابي. إنه خيط ينسج بين الصبر العربي، والانسجام الصيني، والتفكير العلمي الحديث، ليشكل تزاوجا فكريا فريدا يساعد الإنسان على تحقيق حياة أكثر انسجاما واتزانا.

الصبر العربي والانسجام الصيني.. دروس في مواجهة الحياة

الصبر ليس مجرد فضيلة في الثقافة العربية، بل هو مفتاح أساسي لفهم الحياة. هو تلك القوة الداخلية التي تدفع الإنسان إلى الاستمرار، حتى عندما تكون الرياح ضده. ففي القصص العربية، وفي أمثالنا وحكمنا، نجد دائما إشارات إلى أهمية التحمل والثبات، وكأن الحياة لعبة تحتاج إلى من يمتلك القدرة على الصمود فيها حتى النهاية.

وحين بدأت في التعرف على الفلسفة الصينية، فوجئت بمفهوم يشبه إلى حد بعيد ما تعلمناه في ثقافتنا، لكنه يأتي برؤية مختلفة، ففي الصين، يتحدثون عن "وو وي"، وهو مفهوم يشير إلى عدم المقاومة المفرطة، بل التدفق بانسجام مع مجرى الحياة، فلا نعني هنا بالتحمل السلبي، بل في إيجاد التوازن مع القوى التي تحيط بك، والتكيف معها بذكاء.

لكن المفاجأة الأكبر جاءت عندما بدأت في تعميق دراساتي في علم النفس الإيجابي، حيث وجدت أن هذه الفلسفات القديمة تتلاقى مع الأبحاث الحديثة التي تؤكد أن المرونة النفسية وتقبل التحديات بوعي هما المفتاح الحقيقي للنجاح والسعادة.

إذن، هل علينا أن نتحمل الحياة بصبر، أم ننساب معها بانسجام؟ الواقع أن الحل يكمن في المزج بين الاثنين، بين صبر العربي ومرونة الصيني، لأن كليهما يكمّل الآخر، ويمنحنا رؤية متكاملة لكيفية التعامل مع صعوبات الحياة.

السعادة.. رقصة متناغمة بين النفس والطبيعة والرضا الداخلي

يرى علم النفس الإيجابي أن السعادة ليست مجرد غياب المشاعر السلبية، بل هي حالة من الرفاه والازدهار النفسي وتتطلب تحقيق التوازن بين المشاعر الإيجابية، العلاقات الجيدة، وتحقيق الأهداف الشخصية، ويتوافق ذلك مع مفهوم السعادة في الفلسفة الصينية، حيث يؤكد الفكر الصيني أن السعادة الحقيقية تأتي من العيش في تناغم مع الطبيعة والمجتمع. أما في الفكر العربي، فالسعادة الحقيقية تُبنى على الطمأنينة الداخلية والرضا بالقليل، وهو ما نجده في مبدأ "القناعة" الذي يدعو إلى الرضا بما لدى الإنسان.

أما الدراسات الحديثة في علم النفس فهي تشير إلى أن الامتنان أحد أكثر الطرق فاعلية لتعزيز السعادة، حيث يساعد على إعادة توجيه العقل نحو الأمور الإيجابية بدلا من التركيز على المشكلات، وهذا ما نجده في الفلسفة الإسلامية أيضا، حيث يُعتبر الشكر والامتنان من الأسس التي تعزز راحة البال.

إضافة إلى ذلك، نجد في الفكر الصيني مفهوم "الانسجام الداخلي"، حيث يُنظر إلى السعادة على أنها حالة من التوازن بين الجسد والعقل والروح، وهو ما يعكسه التأمل والتفكر اللذان يساعدان على زيادة الإحساس بالسعادة وتحقيق السلام الداخلي.

من الكرم العربي إلى التوازن الصيني.. دروس في بناء الروابط الإنسانية

يُعتبر الكرم جزءا أصيلا من الهوية الثقافية في المجتمعات العربية، فالكرم هنا لا يعني العطاء المادي فقط، بل هو عطاء في الوقت، والمشاعر، والمساندة. إنها فلسفة قائمة على أن السخاء يجلب المحبة، والمحبة تبني مجتمعات قوية ومتينة.

لكن في الصين، وجدت أن العلاقات الاجتماعية تقوم على مبدأ آخر لا يقل أهمية وهو التوازن. هناك مفهوم يسمى "رن تشينغ"، والذي يعني ببساطة أن تكون العلاقات قائمة على العطاء المتبادل، بحيث لا يشعر أي طرف أنه يُستَغل أو أنه يقدم أكثر مما يأخذ.

أما من منظور علم النفس الإيجابي، فإن العلاقات الناجحة هي تلك التي تقوم على التقدير المتبادل والتوازن بين العطاء والاستقبال. فالإنسان يحتاج إلى الشعور بأنه محبوب، لكنه في الوقت ذاته يحتاج إلى الحفاظ على حدوده النفسية كي لا يسقط في فخ "شمعة تحترق لتُضيء للآخرين".

فبعد أعوام من الانسجام مع إيقاع الحياة في الصين، حيث تراقصت روحي بين ألوان الثقافات المتداخلة، أدركت أن فن بناء العلاقات الناجحة والمستدامة يكمن في مزج سخاء القلب العربي بحكمة التوازن الصيني، فنعطي بلا حدود، لكن بوعي يحفظ أرواحنا من الذوبان في العطاء.

الشجاعة العربية والانضباط الصيني.. مفتاح الإرادة القوية

لطالما كانت الشجاعة والقيادة حجر الأساس في الثقافة العربية، حيث نشأ العرب على فن اتخاذ القرار بشجاعة، وتحمل المسؤولية بثبات. ويتردد صدى هذه القيم في أمثالنا وحكاياتنا التراثية، حيث يظهر البطل دائما كشخص قادر على اتخاذ قرارات حاسمة وسط العواصف.

أما في الصين، فثمة فلسفة أخرى للنجاح، تقوم على الانضباط والتقدم المدروس، كما يلخصها المثل الصيني الشهير "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة". فالصينيون يؤمنون بأن المجد لا يُبنى بالقفزات الجريئة وحدها، بل بخطوات ثابتة ومتواصلة، وهذا المفهوم يتوافق تماما مع ما تؤكده أحدث الدراسات في علم النفس الإيجابي، والتي ترى أن تحقيق الأهداف لا يعتمد فقط على الشغف العابر، بل على الاستمرارية المدروسة.

وهكذا، أدركت أن الشجاعة وحدها لا تصنع النجاح، كما أن الانضباط وحده لا يكفي، فالسر يكمن في مزيج متوازن بينهما؛ أن تمتلك الجرأة لاتخاذ القرار، ولكن بالصبر والانضباط لترجمته إلى واقع ملموس.

اكتشاف جوهر الوجود.. حيث تلتقي الفلسفات وتنير دروب الحياة

كلما تعمقتُ في دراسة العقل البشري واستكشاف الفلسفات المختلفة، أدركتُ أن الإنسان ليس مجرد باحث عن نجاح مادي أو مجد مهني، بل هو كائن متعطش للمعنى، يسير في دروب الحياة سائلا: لماذا نحن هنا؟ وإلى أين نمضي؟ في الفلسفة العربية، نجد هذا التساؤل متجذرا في المقولة: "إذا عُرف السبب، بطل العجب"، وكأن الفهم الحقيقي يكمن في سبر أغوار الأشياء والبحث عن عللها، حيث لا يطمئن العقل إلا حين يفكك الظواهر ويضعها في سياق منطقي مفهوم. أما في الصين، فاتخذ هذا البحث مسارا مختلفا، أكثر هدوءا وتأملا، متجسدا في مفهوم "الداو"؛ ذلك التيار الخفي الذي يحكم تناغم الوجود، حيث الحكمة لا تكمن في التحليل وحده، بل في الإصغاء لتدفق الحياة، والمضي معها بانسجام، تماما كما يسير النهر في مجراه، متكيفا مع تضاريسه دون أن يفقد ذاته. وهكذا، بين الرغبة في فهم الأسباب، وبين القبول الواعي لحركة الوجود، يكمن مفتاح التوازن النفسي، حيث يجد الإنسان راحته لا في المقاومة العنيفة، ولا في الاستسلام السلبي، بل في الوعي العميق بقوانين الحياة والسير وفقها بذكاء واتزان.

وجاء علم النفس الإيجابي ليؤكد أن أعمق درجات السعادة لا تتحقق بالإنجازات الخارجية وحدها، بل حين يعيش الإنسان متصالحا مع ذاته، متبعا قيمه الداخلية، شاعرا أن لحياته معنى ورسالة تتجاوز حدود المادة والزمن.

وهكذا، أدركت أن الرضا الحقيقي ينبع من توازن عميق بين ثلاثة أركان؛ الحكمة العربية، التي تعلمنا كيف نفكر بعمق في أسباب الأمور؛ والحكمة الصينية، التي ترشدنا إلى الانسجام مع إيقاع الحياة؛ وعلم النفس الإيجابي، الذي يزودنا بأدوات عملية لنحيا بتوازن وسلام داخلي.

التوازن بين الفكر العريق والرؤية الحديثة.. مفتاح الازدهار

يتناغم الفكر الصيني والعربي بانسيابية مذهلة مع مبادئ علم النفس الإيجابي، وكأنها أوتار ثلاثية تعزف لحنا متكاملا للحياة. في عمقها، تتقاطع هذه الرؤى لتكشف أسرار السعادة الحقيقية. إنها خيوط ذهبية تتشابك لتنسج نسيجا معرفيا، يمنح الإنسان القدرة على تبني عقلية إيجابية وصحية، تُمهد له درب النجاح والرفاه بروح متزنة.

وفيما يواصل العلم استكشاف أعماق النفس البشرية، تظل الحكمة القديمة، سواء في عمق الفلسفة الصينية أو في نفائس المأثور العربي، نورا يُضيء درب الباحثين عن حياة متوازنة وسلام داخلي. فالتناغم بين الفكر الباحث عن الحقيقة والحكمة المتوارثة عبر العصور هو السر الذي يمنح الحياة عمقها وثراءها، والمفتاح الحقيقي لازدهارها بالمعنى والجمال.

--

عبد الله العفاس، مدير المشروعات الثقافية في دار سينولنغوا للنشر التابعة للمجموعة الصينية للإعلام الدولي.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4