ثقافة وفن < الرئيسية

كيف كان يدون الصينيون قبل اختراع الورق؟

: مشاركة
2025-09-15 11:58:00 الصين اليوم:Source مي عاشور:Author

منذ أن أصبحت قريبة من الصين لغة وثقافة، وأنا اكتشف كل يوم أسرارا جديدة عن الحضارة الصينية وتاريخها الطويل. عندما أسافر إلى أماكن لم أزرها من قبل في الصين، تقودني هذه الأماكن إلى دروب جديدة من المعرفة، وتفتح لي آفاقا لم أتطلع إليها مسبقا. ولأنني عربية مصرية، أدرك جيدا ما تحمله تلك البلاد ذات التاريخ المديد، والحضارة العريقة من سحر متفرد مشع، لا يحتاج إلى تنقيب كي يكتشف؛ لأنه ببساطة وضاء خاطف للأنظار، ويجذبك إليه.

رحلتي هذه المرة، بدأت من مقاطعة قانسو في شمال غربي الصين. كل الأمكنة التي زرتها فيها، كانت بمثابة كتاب يفتح لي صفحاته، ويسحبني إلى عالم مغاير ومبهر. أضافت الثقافة الثرية لهذه المقاطعة، الكثير إلى مخزون معلوماتي عن الثقافة الصينية بمختلف جوانبها. بل وكان كل شيء فيها في حد ذاته ثقافة: المشي في شوارعها، والتنقل بين مدنها، وتناول أطعمة القوميات المختلفة، الحديث مع أهلها، والمزارات التاريخية، والمتاحف، والفنون المتفردة المبهجة. كل التفاصيل الصغيرة أوصلتني إلى شيء أكبر. في أيامي الأولى في مقاطعة قانسو، زرت متحف "جياندو"، والذي يقع في مدينة لانتشو حاضرة المقاطعة.

ومن خلال متحف "جياندو"، علمت للمرة الأولى أنه كانت للصينيين طريقة خاصة في الكتابة والتدوين قبل اختراعهم للورق. لكن ما هو "جياندو"؟، وما هي هذه الطريقة المبتكرة؟

تشير كلمة "جياندو" إلى شرائح من الخشب والخيزران استخدمها الصينيون قديما في الكتابة والتدوين. والشرائح الرفيعة والطويلة منها تسمى "جيان"، أما العريضة والأكثر سمكا تسمى "دو". وعادة كانت تجمع الشرائح وتربط معا بحبل أو خيوط حريرية، لتصير مصفوفة مثل قطعة من الورق الطويل الملفوف. وكان الحبر يستخدم في الكتابة على هذه الشرائح بالفرشاة، كما كانت السكين تستخدم كممحاة، لتصحيح أي رمز يكتب خطأ، ولم يستخدم السكين للحفر عليها. وفي البداية كان يصنع السكين من البرونز، وفيما بعد بدأ يصنع من الحديد.

سكين تصحيح الأخطاء الكتابية

كانت صناعة شرائح الخشب والخيزران تمر عادة بعدة مراحل؛ بداية من التحضير ومرورا بالتقطيع والصقل والتجفيف على النار. ويكون التجفيف خاصا بالخيزران، لأنه يحتوي على نسبه من السوائل، وبالتالي يجب أن يمر بهذه المرحلة أولا، قبل الكتابة عليه. وقد استخدمت شرائح الخيزران والخشب في توثيق السجلات، والكتب القديمة والوثائق والأوراق الرسمية. فهذه الشرائح لعبت دورا مهما في تسجيل مسيرة الحضارة الصينية؛ فمن خلالها يمكن القراءة عن فترات مختلفة من تاريخ الصين، بل والتعرف على العديد من تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها.

    يرجع تاريخ استخدام الصينيين القدماء لشرائح الخشب والخيزران إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، حيث ظهرت للمرة الأولى في فترة أسرة شانغ (1600- 1046ق.م). ولا يمكن أن نغفل عن أن فترات أسرة تشين وهان وجين ووي، هي عصور ازدهرت فيها الثقافة الصينية وفاضت بنورها الوهاج، فكان كل من الحرير وشرائح الخيزران والخشب، من أبرز الأدوات المستخدمة في التدوين والكتابة حينذاك.

تم اكتشاف شرائح الخيزران والخشب في القرن العشرين؛ حيث اكتشفت ثلاثمائة ألف شريحة من الخيزران والخشب في جميع أنحاء الصين، منها سبعون ألفا في مقاطعة قانسو وحدها. وتعد مقاطعة قانسو مهد "جياندو" الذي ينتمي إلى فترة أسرة هان، وتعد شرائح الخيزران والخشب هذه بمثابة كنز نفيس؛ لكونها مادة مهمة وثقت ملامح الحياة السياسة والاجتماعية والسياسة، وشكلت القوة العسكرية والعلاقات الخارجية وطريق الحرير وتاريخه ودوره، وغيرها من ملامح تلك الفترة.

إنسان آلي في المتحف

يعرض متحف "جياندو" بشكل مبهر أشكال وطرق صناعة شرائح الخيزران والخشب عبر العصور المختلفة، وكذلك الأدوات المستخدمة في الكتابة عليها، بل ويعرف الزائرين بتاريخ الشرائح، وأماكن اكتشافها المختلفة. ويضم المتحف 50129 قطعة معروضة، وكذلك يحتوي على أربعين ألف قطعة من شرائح الخيزران والخشب، ومنها ينتمي إلى فترات أسرات هان ووي وجين، ولكن معظمها يرجع إلى فترة أسرة هان.

المتحف مصمم بشكل عصري رائع، وعلى الرغم من أنه متحف تاريخي فإنه لا يخلو من التكنولوجيا، والتي تتطور بسرعة فائقة في الصين. فبينما كنت أسير في ردهة المتحف، قاصدة قاعة أخرى، كان هناك "إنسان آلي"، وقد اتضح أنه من موظفي المتحف، ومهمته هي مساعدة الزائرين والإجابة على أسئلتهم، وإرشادهم على الطريق. 

انتقلت إلى القاعة التالية، والتي تحكي عن تاريخ طريق الحرير القديم، والدور الذي لعبه قديما في تبادل الثقافات وامتزاج الحضارات، وذلك بواسطة الحكايات المحفوظة على شرائح الخيزران والخشب. كما أن المتحف به قاعة مخصصة لتاريخ الرموز الصينية وتطورها، والخط الصيني وذروة ازدهاره وعصوره البراقة.

وبعد اكتمال جولتي في المتحف، وقبل النزول إلى الطابق الأرضي، لمحت لافتة مكتوب عليها "مذكرات رحلة إلى الغرب"، واتضح أنه معرض رسم لفنان صيني معاصر اسمه لاو شو، والذي ذهب من شرقي الصين إلى غربها، وتحديدا إلى ممر خشي الواقع على طريق الحرير القديم، وعندما رأى كهوف الألف بوذا بمدينة دونهوانغ والتماثيل البوذية والخزف الصيني الملون وشرائح الخيزران والخشب والطبيعة الساحرة، وغيرها من الأشياء التي تركت أثرا عميقا في نفسه، عزم على التعبير عنها من خلال فنه ولوحاته. ويقول الفنان لاو شو إن هذا المعرض، هو بمثابة تجربة بصرية استغرقت سنوات من صقل الذات، ومحاولات مستمرة للعثور على طريقة ملائمة للتعبير عن ممر خشي. كما أن اللوحات التي رسمها، يمتزج فيها التاريخ بالفن الصيني المعاصر.

لا يقتصر المعرض على الرسم فحسب، فهناك أعمال من الخزف دمج الفنان فيها الرسم بالخط الصيني.

وبينما كنت أقرأ مقدمة الفنان لاو شو لمعرضه، وقعت عيني على هذه الجملة، والتي لخصت مشروعه الفني: "أكثر ما شغلني، هو التعبير عن علاقة المورث التاريخي والثقافي لهذه المنطقة بنا في الحاضر، وعلاقته بما يجول بداخلي وبالخيال والحرية."

أعمال فنية من المعرض

بخطى مضطرة للمغادرة، خرجت من المتحف، ولكنني وجدتني محملة بكنوز من المعرفة عن الحضارة الصينية فاقت توقعاتي. وحينما جال بصري في المكان، أيقنت أن هنا واحدة من أهم المحطات في رحلتي إلى مقاطعة قانسو، والتي أتمنى أن أعود إليها قريبا، لأكمل فصولا جديدة من حكايتي مع الصين، والتي لن تكون مجرد كتابة عادية؛ ببساطة لأنها تمتزج بتجربتي الخاصة مع المكان والناس، وما أصادفه في طريقي من منعطفات تجعلني أكتشف قيمة أن يسير المرء في درب اختاره.

--

مي عاشور، كاتبة ومترجمة من مصر.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4