الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية التي تُنطق بالصينية "آلجيريا"، اسم يكاد يعرفه كل الصينيين، وإن كانت الدولة التي تبعد عاصمتها الجزائر عن العاصمة الصينية بكين أكثر من تسعة آلاف كيلومتر، تظل بالنسبة لنفر من الصينيين بلادا غريبة لا يعرفون عنها الكثير. الصينيون، وخاصة كبار السن منهم، تحتضن ذاكرتهم أحداثا ومواقف مرتبطة بالجزائر، إذ شهدت حقبة خمسينات القرن الماضي صفحات ناصعة من الدعم المتبادل الصيني- الجزائري في سبيل تحرير واستقلال الوطن، والذي تُوِج بإنشاء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1958، عقب الإعلان عن قيام الحكومة المؤقتة الجزائرية، والتي كانت الصين أول دولة غير عربية تعترف بها. لم ينقطع الدعم والتواصل، بل استمر وتوسع مع تطور العلاقات بين البلدين الصديقين في السنوات الأخيرة؛ يشهد على ذلك مساهمات الشركات الصينية في إنجاز العديد من المشروعات الكبرى في الجزائر، وتعاظم التبادلات الثنائية القائمة على أسس متينة أرستها الأجيال القديمة من زعماء البلدين.
وفقا لإحصاءات غير مكتملة، يعيش ويعمل في الجزائر نحو أربعين ألف صيني، ينشطون في مجالات البناء والتجارة والخدمات وغيرها من المجالات المختلفة. بمناسبة مرور ستين عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية الصينية الجزائرية، نشارك مع القراء قصص ثلاثة مغتربين صينيين في الجزائر، تعكس حكاية كل منهم هذه العلاقة المميزة بين الشعبين الصديقين.
لين يي شينغ.. التجارة وحدها لا تكفي
لين يي شينغ، الشاب الصيني البالغ من العمر ستة وعشرين عاما، معروف بين الصينيين المقيمين في الجزائر والأصدقاء الجزائرين بقلب "شياو لين". "شياو لين"، الذي إلى الجزائر قبل ست سنوات ومعه زوجته، يدير في العاصمة الجزائرية متجرا صغيرا لبيع المنتجات الغذائية الصينية، ونُزُلا صغيرا يوفر خدمات السكن والاستشارة والاستعلام للمغتربين الصينيين الجدد. أول شيء يفعله شياو لين بعد أن يستقيظ من نومه كل صباح هو تصفح رسائل صندوق بريده الإلكتروني، للاطلاع على ما ترسله له الشركات الصينية من أخبار حول سير العمل في المشروعات التي تنفذها في الجزائر، فضلا عن الأخبار المترجمة من وسائل الإعلام الجزائرية إلى اللغة الصينية بواسطة مترجم متخصص. يرتب شياو لين تلك المعلومات والأخبار ويدققها قبل أن ينشرها على "صفحة الجزائر" بموقع أخبار المغتربين الصينيين (52hrtt.com). ومن أجل توسيع نطاق النشر، يشاطر شياو لين تلك الأخبار والمعلومات عبر تطبيق التواصل الاجتماعي المعروف "ويتشات"، فيصل عدد مطالعة كل خبر ينشره إلى آلاف المرات بعد ساعة واحدة من النشر، وإذا كانت هناك تعليقات حول خبر ما، يقتطع هذا الشاب جزءا من وقته ليرد عليها في أقرب وقت ممكن.
المفارقة هي أن شياو لين يقوم بكل هذه الأعمال منذ سنتين من دون مقابل، ومن دون أن يطلب منه أحد ذلك. هو لا يأخذ أجرا من الموقع الذي ينشر الأخبار، ولا من الذين يطلبون نشر الأخبار. الأكثر أنه يدفع من ماله الخاص مبلغا كبيرا كل شهر كأجرة ترجمة لمترجمي الأخبار من اللغة الفرنسية إلى اللغة الصينية.
عن هذا الأمر، قال شياو لين: "بصراحة، إدارة المتجر والنُزُل تلتهم معظم وقتي، لكن ذلك لا يؤثر على اهتمامي بأعمال الموقع الإلكتروني. في بداية الأمر، لم يفهم بعض الأصدقاء مغزى العمل الذي أقوم به، بل رأوا أنني أبحث لنفسي عن المتاعب. طبعا لا أحد يريد تعبا إضافيا، خصوصا بالنسبة لشخص مغترب خارج وطنه. ولكن، إذا نظرت إلى الأمر على انه مفيد ويستحق، فلن يكون عبئا وإنما واجب وشرف."
مثل معظم الصينيين الذين جاءوا إلى الجزائر، واجه شياو لين صعوبات في البداية، بسبب حاجز اللغة. لم يكن يستطيع التحدث والتفاهم مع المحليين، ولكن بمساعدة الأقرباء والأصدقاء، تعود شياو لين وزوجته على البيئة الجديدة في هذا البلد، بل صار قادرا على التأمل في البيئة المحيطة به. قال: "وجدت أن كثيرا من الأصدقاء الصينيين لا يعرفون ما يحدث في المجتمع الجزائري، حتى بعض الأحداث التي قد تتعلق بمصالحنا، برغم أن عدد المغتربين الصينيين في الجزائر يزداد يوما بعد يوم. نحن تنقصنا منصة صينية لمعرفة المجتمع الجزائري، للتواصل وتبادل المعلومات التي قد تكون عادية لشخص وهامة لشخص آخر. بالنسبة لأي شخص مغترب، لكي يعيش متناغما مع المجتمع المحلي، التجارة وحدها لا تكفي. كنت أتصفح موقع أخبار المغتربين الصينيين، وفجأة باغتتني فكرة إنشاء "صحفة الجزائر"، فاتصلت بمسؤول الموقع الإلكتروني وطرحت عليه فكرتي مصحوبة بخطة العمل. وافقت إدارة الموقع على فتح "صفحة الجزائر"، وبدأت مسيرتي في إثراء محتويات صفحتنا. في البداية، وبسبب افتقاري للخبرة في مجال العمل الإعلامي والتحرير الصحفي، كانت الموضوعات التي ننشرها مقتصرة على طلب وعرض فرص العمل أو المنتجات، ثم أضفنا الأخبار المتعلقة بالعلاقات الصينية- الجزائرية والأخبار المحلية، لمساعدة المغتربين الصينيين على معرفة العلاقة الصينية- الجزائرية والمجتمع الجزائري، ثم بعض الأخبار حول المشروعات التي تنفذها شركات صينية في الجزائر، إضافة إلى الأخبار والأحداث الصينية التي لا غنى عنها لكل الصينيين."
بجهود شياو لين وبدعم زوجته، أصبحت "صفحة الجزائر" لموقع أخبار المغتربين الصينيين، معروفة لدى الصينيين المقيمين في الجزائر، ونافذة أولي لمن يريد أن يأتي إلى الجزائر.
قال شياو لين: "بعد تحقيق الهدف الأول في تعريف الصينيين بالجزائر، في المستقبل القريب، سوف نركز على تعزيز التعاون مع وسائل الإعلام المحلية، لتعريف الأصدقاء الجزائريين بالصين. أتمنى أن أفعل شيئا في هذه المهمة المجيدة."
ليو ينغ جيه.. طبيب يحمل وسام الاستحقاق
مستشفى مصطفى باشا هو أكبر مستشفى في عاصمة الجزائر، ويشهد زحاما كبيرا أمام مكاتب الأطباء. الدكتور ليو ينغ جيه، واحد من هؤلاء الأطباء المشغولين. اختلافا عن زملائه الآخرين في المستشفى، أدوات العلاج الرئيسية التي يستخدمها الدكتور ليو، هي علبة من الإبر الفضية التي تعتبر رمزا للطب الصيني التقليدي. كيف يوجد الطب الصيني التقليدي في مستشفى بالجزائر التي تبعد عن الصين تسعة آلاف كيلومتر؟ حكى لنا الدكتور ليو هذه القصة التي بدأت قبل 55 سنة: "في شهر أبريل عام 1963، تلبية لطلب الحكومة الجزائرية، بعثت الحكومة الصينية أول فريق طبي إلى الجزائر، لسد الفجوة الطبية بعد انسحاب القوات الفرنسية، في تلك الفترة الصعبة لاقتصاد البلدين، كان مغزى إرسال هذا الفريق أعمق بكثير من المغزى الطبي. ومن ذلك الوقت فصاعدا، تأتي الفرق الطبية الصينية إلى الجزائر، وتعمل مع الزملاء الجزائريين في أقسام المستشفيات بولايات الجزائر المختلفة. أما فريق الإبر، فقد بدأ إرساله منذ عام 1997، ويقدم العلاج بأسلوب الطب الصيني التقليدي، مثل إبر الوخز والحجامة والتدليك."
كواحد من أعضاء الدفعة الثالثة والعشرين للفرق الطبية الصينية المبعوثة إلى الجزائر، يعمل الدكتور ليو ينغ جيه منذ خمس سنوات في الجزائر. قال: "في يناير عام 2013، بعد الإجراءات الطويلة للاختيار من قبل اللجنة الوطينة الصينية للصحة وتنظيم الأسرة، شرفت بالقدوم إلى أرض الجزائر لأول مرة، مع زملاء الفريق الطبي، خلال العامين التاليين، استقبلت مع الزملاء أكثر من ثلاثين ألف زيارة لمختلف المرضى. أرى كل يوم شفاء مرضى الجزائر بفضل العلاج بالطب الصيني التقليدي، فألمس فرحتهم البالغة وإعجابهم الشديد بالطب الصيني التقليدي. قضيت أسعد فترة في الجزائر."
في نهاية عام 2014، انتهى عمل الدكتور ليو الطبي في الجزائر، وعاد إلى الصين. في عام 2016، قدم طلبا لإعادة الانضمام للفريق الطبي في الجزائر. وبعد انتهاء المهمة في نهاية 2017، طلب تمديد مهمته حتى نهاية نهاية 2018. قال: "أحببت هذه الأرض وشعبها. عندما أمشي في الشوارع أو أركب المترو، دائما يناديني شخص من بعيد يا دكتور ليو، هل تذكرتني؟ قد شفيت تماما، شكرا جزيلا لحضرتكم. ثم يعانقني بحرارة. مثل هذه اللقطات تؤثر في كثيرا. قبل قدومي إلى هنا، كانت الجزائر اسما مكتوبا في خريطة العالم. خلال التعامل مع الأصدقاء الجزائريين من مختلف الفئات الاجتماعية، يزداد فهمي لقول الرئيس شي شي جين بينغ: الصداقة بين الدول، تنبع من التواصل الوثيق بين شعوبها."
في عام 2013، أصدر رئيس الجزائر عبد العزيز بوتفليقة، قرارا جمهوريا بمنح الدكتور ليو وزميل آخر له، وسام الاستحقاق الوطني الذي يعد أعلى وسام بالجزائر، تقديرا لإسهامات وجهود الفريق الطبي الصيني في الخدمات الطبية الدولية وتعزيز العلاقات الجزائرية- الصينية.
إضافة إلى تخصصه في الطب الصيني التقليدي، الدكتور ليو من هواة التصوير. بعد انتهاء العمل، يتجول في الشوارع ويسجل بعدسته جمال الجزائر. قال: "في نهاية هذه السنة التي تصادف مرور ستين عاما على إنشاء العلاقة الدبلوماسية الصينية- الجزائرية وخمسة وخمسين عاما على إرسال الفرق الطبية الصينية إلى الجزائر، سوف أغادر الجزائر إلى الصين. ولكن، حتى بدون الصور التي التقطتها، ستظل ملامح الجزائر منقوشة بعمق في ذهني."
شي تشاو.. هدفنا هو العلامة الكاملة
بلدية المحمدية التي تقع على هضبة تنحدر نحو البحر بمدينة الجزائر العاصمة، قدر لها أن تكتب في تاريخ البنايات الإسلامية والعالمية، باحتضانها جامع الجزائر الأعظم، الذي دخل مرحلة الإنشاء النهائية، باعتباره أكبر مسجد في أفريقيا وثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين، ويضم أطول مئذنة في العالم، يمكن تراها في أي مكان في العاصمة. في موقع العمل الذي يضم اثنتي عشرة بناية منفصلة في موقع يمتد على عشرين هكتارا بمساحة تزيد على أربعمائة ألف متر مربع، يشتغل حولي أربعة آلاف عامل من مختلف الدول، ليلا ونهارا لضمان إتمام المشروع في موعده. المهندس شي تشاو الذي جاء من الشركة الصينية لهندسة الإنشاءات، المسؤولة عن تنفيذ مشروع جامع الجزائر الأعظم، واحد من المشغولين في موقع البناء، ومسؤول عن شؤون قاعة الصلاة التي تعتبر أهم جزء بمشروع الجامع الأعظم. قال: "قبل سنتين، أرسلتني الشركة إلى موقع مشروع جامع الجزائر الأعظم. شهدته منذ أن كان هياكل فولاذية حتى وصل إلى ما ترونه الآن. إن عظمة الجامع الأعظم ليست بحجم البناء فقط، وإنما أيضا بعظمة الدقة في التفاصيل."
وأضاف: "خلال السنتين الماضيتين، تركت مع معظم الزملاء كل العطلات والإجازات، من أجل ضمان سير المشروع، لإكمال البناء في كل التفاصيل. بالنسبة لشركتنا، لا توجد صعوبات تقنية أثناء أعمال البناء، حيث ندقق في التنفيذ حسب متطلبات التصميم. أصعب مشكلة تواجهني خلال هذه الفترة، هي مشكلة ناشئة من الثقافة، وعلى سبيل المثال، زخارف الخط العربي في قاعة الصلاة، لكن بفضل التعاون مع الخبراء والعلماء الجزائريين، تجاوزنا الصعويات بسرعة ولم تؤثر على سير العمل في المشروع."
ينقسم يوم شي تشاو وزملائه، إلى ثلاثة أقسام، الصباح والمساء والليل. يتابع شي تشاو كل الأعمال، ويعقد ثلاثة اجتماعات كل يوم، لمراجعة سير العمل وجودة المشروع، وحل المشكلات في حينها. قال: "حجم الأعمال التي يتم أنجازها في شهر بموقع الجامع الأعظم يساوي حجم ما يتم إنجازه من أعمال في سنة بالمشروعات الكبيرة في الأماكن الأخرى. الضغط يجلب دائما شعورا بالإنجاز، وسوف يسجل هذا الجامع الأعظم في تاريخ البنايات العالمية مع اسم الشركة المنفذة له. لذلك، هدفنا ليس درجة مقبول أو جيد، هدفنا هو العلامة الكاملة.".
في وقت الغداء، يقتطع المهندس شي تشاو بعض الدقائق لإجراء مكالمة بالفيديو مع زوجته وابنه، ويبعث لهم بعض الصور الجديدة لسير العمل في المشروع. قال: "في اليوم الأول بعد الاحتفال بمرور مائة يوم على ميلاد ابني، أتيت إلى هنا. قبل يومين كان عيد الميلاد الثاني لابني. للأسف، لم أستطع أن أحتفل معه، فأرسلت بعض الصور الجميلة للجامع الأعظم كهدية مني للتهنئة بهذه المناسبة، وأعتقد بأنه سيكون فخورا بأبيه."
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037