كلنا شرق < الرئيسية

آليات التعاون الثقافي بين مصر والصين.. معهد كونفوشيوس نموذجا

: مشاركة
2022-07-11 17:11:00 الصين اليوم:Source عادل علي:Author

في الثلاثين من مايو 2022، احتفلت مصر والصين بالذكرى السنوية السادسة والستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما، في ذات التاريخ من عام 1956، وهي مناسبة مهمة، لإلقاء الضوء على جانب شديد الأهمية من جوانب العلاقات التاريخية الوثيقة والوطيدة بين البلدين، يمتد إلى تاريخ قديم يرتبط بالحضارتين المصرية والصينية اللتين تضربان بجذورهما في أعماق التاريخ. الجانب المقصود هنا هو البُعد المرتبط بالتعاون الثقافي والتبادلات الإنسانية بين البلدين وشعبيهما. والذي يُعتبر- ضمن أبعاد أخرى- أحد أهم مجالات العلاقات الثنائية بين مصر والصين ليس فحسب في الوقت الراهن، وإنما أيضا منذ نشأة الروابط والتبادلات الإنسانية بين البلدين العريقين عبر طريق الحرير القديم. وسوف أركز بشكل محدد على أحد الآليات المهمة لهذا التعاون في المجال التعليمي وهو معهد كونفوشيوس.

سمات وخصائص فريدة للعلاقات الثقافية

لا جدال في أن البُعد الثقافي يُعتبر أحد الأبعاد المهمة في سياق علاقات الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين مصر والصين، فقد كان نقطة الانطلاق الرئيسية لتلك العلاقات منذ أقدم العصور، الأمر الذي مهد الطريق لتدشين العلاقات الرسمية في العصر الحديث. وتتسم العلاقات الثقافية بين القاهرة وبكين بالعديد من السمات والخصائص الفريدة، لعل من أبرزها:

- الأهمية الكبيرة التي تحظى بها تلك العلاقات، لاعتبارات عدة. أولاها: وجود إرادة متبادلة من جانب قيادتي مصر والصين على تفعيل التعاون الثقافي والتبادل الإنساني بين البلدين. ثانيتها: ما تمثله الثقافة في الوقت الحالي من أهمية كبرى في العلاقات الدولية الراهنة كأحد عناصر "القوة الناعمة" للدول. ثالثتها: التشابه التاريخي والحضاري بين مصر والصين، فكلتاهما تُعتبر من أقدم حضارات العالم، وكان- وما زال- لهما تأثيرهما الثقافي والحضاري في العالم المعاصر. رابعتها: أن التعاون الثقافي والإنساني يُعتبر أحد أبرز المجالات التي تشهد تناميا ملحوظا في إطار العلاقات بين مصر والصين، في ضوء ما يجمعهما من ميراث حضاري وإنساني مشترك منذ القدم. خامستها: أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة بالنسبة لكل من مصر والصين، ولاسيما في تحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولتين، باعتبارها أحد مصادر وأدوات "القوة الناعمة" للدولة في علاقاتها مع الدول الأخرى.

- تنوع وتعدد مجالات التعاون الثقافي والتبادل الإنساني بين البلدين، والتي تمتد لتشمل حزمة واسعة من الجوانب، إذ تشمل: السياحة والآثار، التعليم، الإعلام، الرياضة.. إلخ، سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي (الإقليمي والدولي) المتعدد الأطراف.

- وجود آليات عديدة ومتنوعة تجسد التعاون الثقافي والإنساني بين مصر والصين، ومنها توقيع العديد من الاتفاقيات والبروتوكولات والبرامج التنفيذية للتعاون الثقافي بمختلف أبعاده، السياحية والتعليمية والإعلامية.. إلخ. بجانب الزيارات المتبادلة؛ إقامة المعارض المشتركة؛ إقامة الأسابيع الثقافية في البلدين؛ افتتاح مكاتب ثقافية ومؤسسات ثقافية في عاصمتي البلدين؛ التعاون في مجال حماية الآثار والتراث الثقافي؛ المشاركة في الأحداث الثقافية الدولية التي يتم تنظيمها في البلدين؛ فضلا عن تنظيم الأعوام الثقافية المتبادلة.

- امتلاك البلدين سمات وخصائص حضارية مشتركة كان لها تأثيراتها الكبيرة على الإنسانية. فهناك تشابه كبير بين الحضارتين المصرية والصينية، سواء من خلال الثقافة أو منظومة القيم الحاكمة للمجتمعات. حيث تتمثل القواسم المشتركة بين الحضارتين المصرية والصينية- وفقا لإحدى الدراسات- في خمس نقاط جوهرية، وهي: "ثقافة العمل"، حيث حظى العمال وأصحاب الحرف بقيمة خاصة في الحضارتين، و"قيم العدل والحق والقانون"، إذ احتلت تلك القيم مرتبة متميزة في منظومتي الأخلاق المصرية والصينية. ومن بين القواسم المشتركة أيضا "المواطنة والتماسك المجتمعي"، و"تنوع المكون الثقافي بين العديد من الفنون والآداب"، ما أدى إلى ثراء الحضارتين الصينية والمصرية واستمرارها، علاوة على "أصالة الهوية"، حيث حملت كل حضارة ملامح تميزها وخصوصيتها.

- يعتبر التعاون في مجال التعليم أحد أبرز مجالات التعاون الثقافي الثنائي، حيث وقعت الحكومتان اتفاقية تعاون في مجال التعليم منذ بداية إقامة العلاقات الدبلوماسية. وخلال العام الدراسي 2020-2021، قبلت الصين أكثر من 240 طالبا جديدا من خلال منح الحكومة الصينية. وفي عام 2019، وصل أكثر من 50 طالبا صينيا إلى مصر للدراسة بشكل رسمي برعاية الصندوق القومي للطلاب الأجانب. وبلغ إجمالي عدد الطلاب الصينيين الذين يدرسون في مصر حاليا أكثر من 1200 طالب. وتعد جامعة عين شمس في مصر أول جامعة عربية تقوم بتدريس اللغة الصينية. وهناك أكثر من 2000 طالب فى 16 جامعة مصرية متخصصون في دراسة اللغة الصينية. كما تم إنشاء ثلاثة معاهد كونفوشيوس وفصلي كونفوشيوس في مصر. وتم تضمين تدريس اللغة الصينية في المناهج التعليمية للمدارس الابتدائية والثانوية المصرية في عام 2020.

ماهية معاهد كونفوشيوس وأهدافها

ترجع بدايات فكرة إنشاء معاهد كونفوشيوس إلى عام 2002، عندما بدأت السلطات الصينية في التفكير في إنشاء معهد يدعو إلى تدريس اللغة والثقافة الصينية في البلدان الأجنبية. وفي عام 2004، تم الإعلان رسميا عن إنشاء أول معهد كونفوشيوس في جمهورية كوريا. وترجع فكرة تسمية هذه المعاهد باسم "معهد كونفوشيوس" إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي يمثل الكونفوشية، والتي تعد رمزا للثقافة التقليدية في الصين. ويتمثل الهدف الرئيسي لمعاهد كونفوشيوس في تلبية احتياجات الأشخاص الذين يرغبون في تعلم ودراسة اللغة الصينية من مختلف دول ومناطق العالم، بهدف تعزيز تعرف شعوبها على اللغة والثقافة الصينية، وتعزيز العلاقات التعليمية والثقافية بين الصين ومختلف بلدان العالم، إضافة إلى دفع تطور الثقافات المتعددة وتأسيس عالم يسوده التناغم والانسجام.

وفي حقيقة الأمر، فقد جاء تأسيس تلك المعاهد انطلاقا من إدراك قادة الصين لأهمية اللغة والثقافة في خدمة المصالح الوطنية للصين وتعزيز قدرتها على أن تلعب دورا رئيسيا في العالم. حيث تعمل معاهد كونفوشيوس على دعم العديد من أهداف السياسة الخارجية للصين. كما جاء توسع وانتشار هذه المعاهد مصاحبا لما تشهده الصين من تطور غير مسبوق في الاقتصاد وما يتبعه من زيادة التبادل التجاري والثقافي بينها وبين بقية العالم، وهو ما يعني وجود حاجة ماسة لدراسة اللغة الصينية في مختلف دول العالم. ويُعد معهد كونفوشيوس أحد أدوات الدبلوماسية العامة الصينية في الخارج، وكذلك أحد أدوات القوة الناعمة الصينية. ومن أبرز دوافع الدعوة إلى تدريس اللغة والثقافة الصينية هو الصعود الكبير الذي طرأ على مكانة ودور الصين على الصعيد العالمي. وفي الوقت الحاضر، يوجد أكثر من 500 معهد كونفوشيوس، و1000 فصل كونفوشيوس في العالم، منها 61 معهد كونفوشيوس و48 فصل كونفوشيوس في أفريقيا. أما في مصر، فيوجد ثلاثة معاهد كونفوشيوس، أحدها في جامعة القاهرة وقد تأسس في عام 2007، والثاني في جامعة قناة السويس وقد تأسس في عام 2008، والثالث في جامعة عين شمس الذي تمت ترقيته من فصل إلى معهد في عام 2021 وقام معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة بفتح فروع في العديد من الجامعات الأخرى، ومنها جامعة فاروس بالإسكندرية، جامعة بنها، جامعة الفيوم، إلى جانب فروع أخرى في العديد من المدارس الثانوية والإعدادية والابتدائية.

أسباب إنشاء معهد كونفوشيوس في مصر

هناك العديد من الأسباب التي دفعت الجانبين المصري والصيني إلى التوجه نحو تأسيس معهد كونفوشيوس في مصر. على الجانب الصيني، تتمثل أهم الدوافع في: العمل على نشر الثقافة واللغة الصينية وتعريف المصريين بها، بما يؤدي إلى خلق صورة ذهنية إيجابية عن الصين وثقافتها لدى الشعب المصري، والتزايد الملحوظ في عدد الشركات الصينية المتواجدة في السوق المصرية في ظل مبادرة الحزام والطريق والتي توجد قناة السويس على أحد ممراتها البحرية. وخاصة في ظل إدراك الصين لأهمية العامل الثقافي في تعزيز مشروعاتها الاقتصادية في دول العالم. كما أن معهد كونفوشيوس يُعد أيضا نافذة للتعرف على مصر والثقافة المصرية عن قرب، من خلال تنظيمه لدورات تنمية بشرية للمهندسين والخبراء الصينيين بالشركات الصينية العاملة في مصر للتعرف على الشخصية المصرية وكيفية التعامل مع العامل المصري والمحافظة على العلاقة بينهما، والاستفادة من قدراته وإمكانياته.

أما على الجانب المصري، فإن هناك العديد من الأسباب وراء إنشاء معهد كونفوشيوس، يتمثل أبرزها في: تلبية الطلب المتزايد من قبل المصريين على تعلم ودراسة اللغة الصينية، سواء من طلاب أقسام اللغة الصينية بالجامعات المصرية أو الطلاب من تخصصات أخرى مثل التجارة والطب والآثار والحقوق. وكذلك، التعرف على مختلف جوانب الثقافة والحضارة الصينية، وزيادة الوعي والمعرفة بالثقافة والحضارة الصينية، من خلال المشاركة في الأنشطة والاحتفالات التي تُقام في الأعياد والمناسبات الصينية المختلفة، وكذلك التعرف على ثقافة المجتمع الصيني بمختلف مكوناته وقومياته. هذا بجانب خدمة أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر، ولاسيما فيما يتعلق بمحاربة البطالة وتوفير فرص عمل للشباب، حيث يؤدي تعلم اللغة الصينية إلى زيادة إمكانية الحصول على فرص عمل في الشركات الصينية العاملة في مصر.

أدوار ثقافية واقتصادية متنوعة

تتنوع أدوار معهد كونفوشيوس في مصر، إذ لا تقتصر فقط على الجانب الثقافي واللغوي، وإنما تمتد لتشمل أيضا الجانب الاقتصادي. يتمثل الدور الثقافي واللغوي، وهو الأساس وراء إنشاء المعهد، في: القيام بتنفيذ الأنشطة الثقافية المختلفة التي تهدف إلى تعريف المصريين بالثقافة الصينية، والتي تشمل: إدارة المعارض والندوات والمسابقات في الخطب والقصائد والرقص والكونغ فو والألعاب البهلوانية والطبخ والفعاليات الثقافية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، يقوم المعهد بإجراء اختبار الكفاءة الصينية المعروف باسم (HSK)، والذي يحظى بشعبية كبيرة لدرجة أن الطلاب من جميع أنحاء مصر يأتون لإجراء هذا الاختبار. علاوة على إعداد مدرسي اللغة الصينية من المصريين، وترشيح الطلاب المصريين للحصول على منح دراسية في الصين.

أما الدور الاقتصادي لمعهد كونفوشيوس فيتمثل في العمل على خدمة المصالح الاقتصادية المتبادلة للجانبين الصيني والمصري. وهذا الدور يأخذ أبعادا متعددة، منها: تنظيم ملتقيات خاصة للتوظيف بالشركات الصينية العاملة في مصر، ولاسيما تلك العاملة في المنطقة الاقتصادية بخليج السويس والعاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة والقاهرة، وإعداد وتأهيل الخريجين المصريين للاستجابة لمتطلبات سوق العمل المصرية والعربية والدولية، وقد تجلى ذلك في قيام معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة جياوتونغ بشانغهاي التي تحتل المرتبة 56 على مستوى العالم، في إطلاق البرنامج الدولي للغة الصينية لإدارة الأعمال. هذا بالإضافة إلى المساهمة في دفع عجلة التنمية الشاملة بإقليم قناة السويس، وذلك من خلال الدور الذي يقوم به معهد كونفوشيوس بجامعة قناة السويس.

نجاح كبير بحاجة إلى البناء عليه

لقد نجح معهد كونفوشيوس منذ تأسيسه في مصر بدرجة كبيرة في تحقيق رسالته وأهدافه في رفع درجة الوعي وزيادة المعرفة الثقافية من جانب الشعب المصري بالثقافة والحضارة الصينية، فضلا عن خدمة أهداف التنمية الاقتصادية الصينية والمصرية. والشاهد على ذلك الأنشطة والفعاليات العديدة والمثمرة التي قام بها المعهد، والتي كان لها صدى إيجابي في التقدير الكبير الذي حاز عليه. حيث حصل فرع المعهد بجامعة القاهرة في ديسمبر عام 2016، على لقب "معهد كونفوشيوس النموذجي". كما حصلت الدكتورة رحاب محمود مديرة المعهد في شهر أكتوبر عام 2021، على الجائزة التذكارية ضمن سبعين من مدراء معاهد كونفوشيوس في العالم، وهي الوحيدة من مصر والدول العربية وشمالي أفريقيا، تقديرا لجهودها في نشر اللغة والثقافة الصينية وإدارتها.

ومع ذلك، فإن ثمة حاجة متزايدة إلى البناء على ما حققه معهد كونفوشيوس الصيني في مصر من نتائج إيجابية في سياق علاقات التعاون الثقافي والتبادل الإنساني بين مصر والصين، خاصة وأن البلدين يزخران بإمكانيات وآفاق هائلة نابعة من تشابه السمات والخصائص الحضارية المشتركة لكليهما، بما يؤدي إلى توسيع التعاون المشترك بين البلدين في مختلف المجالات، وعلى رأسها المجال الثقافي والإنساني، من خلال إنشاء المزيد من معاهد كونفوشيوس في الجامعات المصرية.

--

عادل علي، إعلامي وباحث مصري في الشؤون الصينية.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4