كلنا شرق < الرئيسية

جمهورية الصين الشعبية.. دولة من النهضة إلى الرؤية

: مشاركة
2022-09-09 11:35:00 الصين اليوم:Source د. حيدر قاسم مطر التميمي:Author

غيرت الثورة الشيوعية في الصين مصير الشعب الصيني، وأعادت رسم خريطة العالم الحديث. خضعت الاشتراكية الصينية لتحولات كبيرة، حيث قاومت الدولة الخروتشوفية بينما كانت تحارب الرأسمالية العالمية بحروبها الساخنة والباردة وغيرها، وحتى التهديد بهجمات نووية. كان الوعد بانتقال السوق في عام 1978 وفق إيقاع اشتراكي يحظى بإجماع كبير قبل أن يدخل بشكل غير متوقع في مرحلة جذرية طويلة بعد الثمانينات، ما أدى إلى إصلاح أيديولوجية الحزب، والهيكل الاقتصادي، بالتالي العلاقات الطبقية والاجتماعية، وكذلك العلاقات الخارجية.

كما الحرير في نعومته وجاذبيته، لا تزال الصين في ظل حكم "الحزب الشيوعي"، تتحرك بنفاذ مقلق للدول الغربية في نطاقات مختلفة. إذ لا يمكن تجاهل نفاذها في مشروعات اقتصادية عملاقة، ناهيك من مبادرة "الحزام والطريق" التي تعوِل عليها بكين بشكل كبير لإحياء طريق التجارة القديم الذي يعود تاريخه لقرون عدة. ومن خلال استلهام مساره، فإنها تطرح وتُشارك في توسيع حركة التجارة العالمية مساهمة في إنشاء شبكات من الطرق والموانئ والمرافق الأخرى عبر بلدان عدة في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ولا يتوقف الأمر عند حدود التجارة المباشرة، ذلك أن الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لا تُخفي سعيها سواء في إطار "مجموعة السبع" أو خارجها لـ"وقف النفوذ الصيني". ويُضاف إلى ذلك المخاوف من النمو المتصاعد في مجال التكنولوجيا على وجه الخصوص.

إن الحزب الشيوعي الصيني يبدأ مئويته الثانية وقد حقق نجاحات ضخمة في توحيد الصين، ونقلها من بلد محطم وجائع إلى أحد أكبر الاقتصادات العالمية، وإلى قوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاهلها، ومركز صناعي للعالم بأسره. إلا أن السؤال الذي يُطرح بقوة، والذي يُعد أحد النقاط المثيرة للجدل اليوم، هو هل يواجه الحزب الشيوعي الصيني تحديات ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟ الإجابة: نعم. فهناك تحديات كثيرة وكبيرة في الآن نفسه، بعضها داخلي والآخر خارجي، وهي ليست تحديات تخص الحزب وحده وإنما الصين ككُل. وطالما أن قيادة الحزب مدركة ومقدرة لهذهِ التحديات، عارفة سُبل وآليات التعامل معها، وفق منهجية علمية وإدارية أثبتت فعاليتها بجدارة، فإنه- أي الحزب الشيوعي الصيني- ما زال محتفظا بحيويته وقوته التي تمكنه من قيادة الصين في عالم متغير. نعم، سيبقى مستقبل الحزب الشيوعي الصيني مرتبطا بقدرته على تطوير ذاته، وآلياته، ومواكبة التغيرات داخل الصين وخارجها.

الصين.. رائدة التنمية المُستدامة

كانت اهتمامات التنمية في كلِّ دول العالم- في بادئ الأمر- تنصب نحو تحقيق التنمية الاقتصادية، حتى جعلت منها هدفا تسعى إليه من خلال العمل على الاحتفاظ بمعدل مناسب من التنمية في شتى الأصعدة؛ ليتحقق للمجتمع على المدى البعيد زيادة معدلات النمو في الدخل الوطني الحقيقي. وإن أبرز ما تنطوي عليه عملية التنمية هي إحداث تغيير جذري في المجتمع يُقضى به على مسببات التخلف والفقر. إلا أن هذا المفهوم للتنمية نراه- منذ عقود- قد تغير وفقا للمفهوم الذي خرجت به إدارة الحزب الشيوعي الصيني في ظل سياستها التنموية للبلاد، فبعدما كان الحديث عن التنمية الاقتصادية الشاملة أصبح الحديث اليوم عن التنمية البشرية المستدامة ومقاييسها، إذ أصبح الاستثمار في المورد البشري هو غاية الإدارة الصينية، والتي تهدف من ورائها بناء القدرات البشرية بغية التوصل إلى مستوى رفاه إنساني راق، من خلال التمتع بمزايا الحياة (الصحة، المعرفة، التعليم، الحرية..)، وتوظيف قدرات التسيير في كافة النشاطات الإنسانية الاقتصادية والسياسية والمدنية.

ظهر تعبير مجتمع المعرفة (knowledge society) في نهاية عَقد الستينات من القرن الماضي. وكان المقصود به أن الثروة الحقيقية لدولة معينة تتوقف على طاقتها في إنتاج المعارف وتبادلها وتحويلها، وليس فقط على ثرواتها الطبيعية أو إنتاجها المواد المصنعة. ويمتاز المجتمع الصيني اليوم، في ظل إدارة الحزب الشيوعي، بخصائص تجعله متوافقا وقريبا في الدلالة من هذا المفهوم، إذ أن جميعها تدور حول توظيف المعرفة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما يميزه عن غيره من المجتمعات الزراعية والصناعية البحتة.

وعليه، يمكن لنا أن نحدد مميزات المجتمع الصيني، بناء على القراءات العميقة، والمتابعات المتواصلة لحركته التنموية، بعدد من الخصائص، والتي نجحت الإدارة الصينية في تقوية أواصرها ودعائمها بين جميع طبقات المجتمع الصيني، حتى بات اليوم يُعد خير مثال لما يطلق عليه "مجتمع المعرفة"، منها:

-        توافر مستوى عال من التعليم، ونمو متزايد من قوة العمل التي تملك المعرفة وتستطيع التعامل معها وتوظيفها في الإنتاج، وتحول مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة ومنظمات المجتمع المدني إلى هيئات ومنظمات ذكية وفاعلة مع الاحتفاظ بأشكال المعرفة المختلفة في بنوك المعلومات وإمكان إعادة صياغتها وتشكيلها أو تحويلها إلى خطط تنظيمية بفضل مراكز البحوث القادرة على إنتاج المعرفة والاستفادة من الخبرات المتراكمة، مما يساعد في خلق مناخ ثقافي يمكنه فهم التحولات والتغيرات ويتجاوب معها.

-        كذلك يمتاز المجتمع الصيني بأنه مجتمع يعتمد في تطوره ونموه بصورة رئيسة على المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، أي أنه يعتمد على ما يسميه البعض بالتكنولوجيا الفكرية. تلك التكنولوجيا التي تضم سلفا سلعا وخدمات جديدة مع التزايد المستمر للقوة العاملة المعلوماتية التي تقوم بإنتاج وتجهيز ومعالجة ونشر وتوزيع وتسويق هذه السلع والخدمات.

-         كما تتسم الإدارة الصينية بأنها تؤمن النفاذ الحر والشامل إلى المعلومات لجميع أفراد المجتمع، وهذا مرتبط بتوفر التكنولوجيا اللازمة المتمثلة بوجود البنية الأساسية المتطورة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فضلا عن وجود القوانين التي تحفظ حقوق المواطنين بالوصول إلى المعلومات، ضمن إطار من الحرية والشفافية والتي تُعد أمرا أساسيا في توسيع النفاذ إلى المعلومات.

-        كما تتسم الإدارة الصينية بتعزيز وعي المواطنين بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وضرورة اشتراكهم في عملية صنع القرار. كما تتسم باعتماد مؤسسات المجتمع الخاصة والحكومية ومنظمات المجتمع المدني أشكال المعرفة المختلفة.

-        كذلك يمتاز المجتمع الصيني بأنه يعتمد في مجمل أنشطة حياته على الاستخدام والتعامل بغزارة مع المعلومات والمعرفة. كذلك فهو مجتمع يعتمد أساسا على المعلومات الوفيرة كمورد استثماري، وكسلعة إستراتيجية، وكخدمة، وكمصدر للدخل الوطني، وكمجال للقوى العاملة، مستغلا في ذلك كافة إمكانيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

-         كما يتصف المجتمع الصيني بأن نسبة كبيرة من أفراده تستخدم المعلومات بشكل مكثف، سواء أكانوا منتجين أو مستهلكين للمعلومات، وإنشاء مراكز نظم معلومات توفر فرصا أفضل للتعليم. ويظهر في هذا المجتمع قطاع المعلومات كقطاع مهم من قطاعات الاقتصاد.

موقف الصين من دول العالم في ظل جائحة كوفيد- 19

 يقال إنه يمكن للأزمات أن تخلق فرصا؛ يمكن لها أن تؤدي إلى إحداث تغيير حقيقي. ولكي تغتنم الصين اللحظة، فإنها تعمل بنجاح على مواصلة مكافحة وباء كوفيد- 19 وهو يدخل موجته الجديدة، وخارج حدودها. إذ تشارك المعلومات واللقاحات الخاصة بأبحاث فيروس كورونا الجديد بغض النظر عن الملكية الفكرية أو اعتبارات الربح، وتلتزم بإمداد معدات طبية عالية الجودة للآخرين، وتلغي الديون المستحقة على البلدان الفقيرة والمتعثرة. يمكن أن تكون هذه الخطوات الأولى للابتعاد عن "العولمة الجديدة" مع فرض جهود جماعية أخرى لوقف سباق التسلح وأزمة المناخ.

بعد تعافي الصين مبدئيا من فيروس كورونا الجديد، أعلن الرئيس شي جين بينغ استعداد بلاده لمشاركة خبراتها وتقديم ما بوسعها من المساعدة للدول التي يتفشى فيها هذا الوباء. فانتقلت الصين من مرحلة الحرب ضد الفيروس إلى مرحلة المصير المشترك للبشرية، وأحيت مبادرة "طريق الحرير الصحي"، التي كانت قد أطلقتها منذ عام 2017، فأخذت بإرسال المساعدات الطبية إلى الدول المتضررة، ومن بينها دول الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وبما أن الصين كان قد أصبح لديها تجربة كبيرة وناجحة في مجابهة فيروس كورونا الجديد، فإنها لم تبخل بخبراتها على أي دولة تطلب المساعدة، فعمدت إلى إرسال الفرق الطبية المتخصصة لكثير من دول العالم، وتمت عملية الإرسال والاهتمام هذهِ بطريقة منظمة ومدروسة، حيث تم تكليف كل مقاطعة أو مدينة صينية بمساعدة دولة معينة، فكان نصيب العراق أن عنيت بمساعدته مقاطعة قوانغدونغ، التي تقع في الجنوب على ضفاف بحر الصين، مستثمرين هذه الفرصة لتوجيه ثناءنا وتقديرنا لإدارة ومواطني هذه المقاطعة الكريمة.

وتتنوع المساعدات الصينية ما بين إرسال بعثات الفرق الطبية، والتبرع بالمستلزمات الطبية والأموال، والمساعدة على إنشاء المختبرات والمستشفيات. ولعل واحدة من المبادرات البارزة والمهمة التي قدمتها الصين للعراق خلال هذه الفترة العصيبة، أن عمَدت إلى افتتاح المختبر البيولوجي الجزيئي الذي أنشأته الصين بإشراف الخبراء الصينيين الموجودين في بغداد. وبحسب السلطات العراقية فإن المختبرات العراقية كانت تستطيع وقتها إجراء نحو 200 فحص في اليوم، إلا أن هذا المختبر الجديد الذي أنشأته الصين بإمكانه أن يجري ألف فحص في اليوم الواحد، الأمر الذي ساعد على تعزيز قدرات العراق في الكشف عن حالات الإصابة بالمرض الناجم عن كوفيد- 19.

وفي جهة أخرى من العالم، فقد امتازت جمهورية الصين الشعبية بعلاقاتها العميقة والرصينة مع العديد من دول القارة الأفريقية، إذ مثلت العلاقات الصينية- الأفريقية نموذجا إيجابيا يحتذى به للعلاقات فيما بين الدول في العالم، ما كان له مساهمات وتداعيات واسعة وبعيدة المدى على تعددية الأقطاب العالمية والعولمة الاقتصادية. وإن مواصلة تعزيز العلاقات مع كافة الدول النامية، بما فيه الدول الأفريقية، كان بمثابة المنطلق الأول والأخير للدبلوماسية الصينية؛ لأن هذه العلاقات قائمة على قاعدة المعاناة المتشابهة وأيام الشدة في الماضي، ومبنية على أساس التطلعات والمصالح الإستراتيجية المشتركة في الحاضر.

الصين والعراق في ظل مبادرة "الحزام والطريق"

تتميز العلاقات العراقية- الصينية بامتدادها التاريخي وعلى مدى جميع حقبه وعصوره. تبلورت وتشكلت ملامحها الواضحة مع بدايات نشأة الدولة العربية الإسلامية، واتخاذها مدينة بغداد عاصمة لها، منذ بدايات القرن الثامن الميلادي. لتبدأ مرحلة العلاقات التجارية بأوسع نطاق لها مع ما شهدته من نمو فاق الأوصاف لطريق الحرير الذي ربط بكين ببغداد على مدى قرون عديدة. وبفضل هذه الروابط والعلاقات- التي بدأت اقتصادية بحتة- شجعت العديد من التجار والعلماء العرب للتنقل والاستقرار في مدن الصين المختلفة، ما أدى بالتالي لتعميق أواصر العلاقات الثقافية والعلمية، وحتى الدينية بين الشعبين، حيث تمتلئ السجلات التاريخية بالكثير من الشواهد على عمق وودية العلاقات بين العراق والصين.

ورغم بعض التذبذب في العلاقات على مدار القرون الماضية، من حقبة التاريخ الحديث؛ بسبب ظروف خاصة مر بها العراق، ظلت الصين دوما مساندة للعراق تدعم استقلاله وسيادته وحريته وحق شعبه في تقرير مصيره، كما هو موقفها من كل شعوب العالم. لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات السياسية بين الطرفين، وتحديدا في أغسطس عام 1958، حينما تم تبادل الاعترافات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية العراق.

وبعد ستين عاما من العلاقات الودية والإيجابية، نرى ضرورة التمسك بدفع عجلة هذه العلاقات نحو الأمام، وبضرورة العمل على إطلاق العنان لها وتفعيل مضامين هذه الشراكة المتميزة، وخاصة تعهدات الصين بالمشاركة الفعلية والفعالة في إعادة الإعمار الاقتصادي للعراق، ثم الانطلاق لتمهيد الطريق لمزيد من التعاون والتبادلات الاقتصادية والعلمية والثقافية لترقية هذه الشراكة إلى شراكة إستراتيجية شاملة، بحيث تكون أوسع وأعمق وأطول مدى.

منذ عام 2013، أطلقت الصين مبادرة "الحزام والطريق"، قائلة إنها تمثل حجر الزاوية للسياسة الاقتصادية الصينية. ويهدف المشروع الصيني إلى تحسين الروابط التجارية العابرة للقارات عبر بناء مرافئ وطرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية. وطريق الحرير البحري إستراتيجية تنموية تعتمدها الحكومة الصينية وتتضمن تطوير البنية التحتية والاستثمارات في 152 دولة ومنظمة دولية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.

ولعل أكثر ما يميز السياسة الخارجية الصينية في الشرق الأوسط هو تركيزها على تهدئة هذه المنطقة، التي توصم عادة بعدم الاستقرار بسبب الحروب والثورات الداخلية، وذلك بدعمها للأنظمة الحاكمة.

فبكين لا تهتم بطبيعة النظام الحاكم من الناحية الأيديولوجية أو العرقية أو الطائفية، بل كل ما يهمها هنا هو تأمين أكبر قدر من الاستقرار الأمني، بحيث تستطيع الطرق وسكك الحديد والموانئ وأنظمة الاتصالات والمدن التجارية الحرة أن تزاول عملها بسلاسة وأمان، وهي مستعدة لتقديم كل مساعدة ممكنة لتلك الأنظمة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا لتحقيق ذلك.

 

--

د. حيدر قاسم مطر التميمي، باحث في مؤسسة بيت الحكمة بالعراق.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4