تضجّ وسائل الإعلام بوصول رواد الفضاء الصينيين إلى الوحدة الأساسية لمحطة الفضاء الصينية "تيانقونغ"، ودخولهم إلى الوحدة "تيانخه"، وهي واحدة من أربع وحدات أساسية في المحطّة الصينية المستقبلية. مشهدٌ يذكّر بوصول ثلاثة رواد فضاء آخرين إلى هذه المحطة في يونيو 2022. آنذاك، تزامن وجودهم هناك مع الذكرة المئوية لتأسيس "الحزب الشيوعي الصيني". فاستغلّ الرواد المعروفون بالـ"تايكونوتس" (taikonauts) الفرصة ليرسلوا تهنئتهم إلى الشعب والدولة، ويؤكدوا أنّ هذا الإنجاز العظيم ما هو إلا انعكاس للخبرة التي استمدّها المشاركون في العملية من تاريخ الحزب، وتحديدا من تطوّر صناعة الفضاء الذي أُنجز تحت قيادته.
ويأتي هذا الإنجاز بعدما منعت القوى الغربية الصين من إرسال رواد فضاء إلى "محطة الفضاء الدولية"، في محاولة لتطويقها في مجال جديد هذه المرة. بيد أنّه، وفي مواجهة التضييق والدعاية الغربييْن المستمرّيْن، لم تفشل الصين مرة جديدة في إثبات أنّها قادرة على تجاوز أي "حصار" يُفرض عليها، لتُبدع وتقود في شتى المجالات، على غرار الفضاء والبيئة والتنمية الاقتصادية وغيرها، من دون المساس، في الوقت عينه، بسيادة البلدان الأخرى أو استغلالها.
هدايا إلى العالم
قال الطبيب اللبناني جورج حاتم (ما هاي ده): "لدينا في الصين موقف مختلف. نحن نشعر بأنّنا مسؤولون عن شعبنا كلّه، لا عن الفرد فقط. فنحن نحسّ بأنّنا حين نعتني بجميع الناس، فإنّنا نعتني بالفرد أيضاً، لأنّنا لا نؤمن بوجود تناقض بين حقوق الشعب وبين حقوق الفرد".
بعيدًا عن إنجازات الفضاء، تقرّر الحكومة الصينية، منذ عام 2015، انتشال نحو مائة ألف صيني ممّن كانوا لايزالون يفتقرون إلى التنمية والرخاء، من تحت خط الفقر، وتنجح في ذلك، يعني أنّها لا تقدّم خدمةً للشعب الصيني فحسب، وإنما ايضا تقدم هدية إلى العالم كلّه. وهنا، أسمح لنفسي باستذكار الطبيب الشخصي للقائد ماو تسي تونغ، الذي كان أوّل أجنبي يحصل على الجنسية الصينية، ابن بلدة حمّانا اللبنانية، جورج حاتم. كرّس حاتم الذي تأثر بالحزب الشيوعي الصيني وانتسب إليه، معظم وقته لتخليص الصين من مرض الزهري والجذام، بين عامي 1953 و1972، وبذل جهودا جبّارة لتحقيق هدف ماو المتمثّل آنذاك في تغيير الظروف الطبية المتخلّفة لسكان كانوا يعانون من الجوع وغياب المسكن والملبس. وعلى غرار كوادر الحزب الشيوعي الصيني، الذين ذهبوا منذ عام 2013 إلى أطراف الصين الفقيرة، وعاشوا أدنى مستوى حياة بين سكان تلك المناطق، ليتابعوا كلّ نواحي تطوّرهم، ويساهموا فيها، فقد تشارك حاتم السرّاء والضرّاء مع المرضى، أكل وشرب معهم، حتى تمكن من تحقيق هدفه في نهاية المطاف. وبعدما نجح والده بعد فترة طويلة برؤيته، سأله عن "ممتلكاته"، بعدما سمع أنّ ابنه صديق مقرّب من القيادة العليا الصينية، ليجيب حاتم(لا يفهم السيد ربيع هذه الجملة): "لديّ بقعة من الأرض تبلغ مساحتها تسعة ملايين وستمائة ألف كيلومتر مربع، وبيوت الصين كلها لي."
بيد أنّ التخطيط الحكيم للحزب الشيوعي الصيني وتماسك الحكومة المركزية، وإستراتيجياتها المتحورة على الدوام حول الإنسان، لا حول الأرباح والاقتصاد، ما كانت يوما لتكون كافية لتحقيق مثل هذه الإنجازات، لولا تماسك أعضاء المجتمع بأكمله، وهيمنة روح التعاون والأخوة عليه. ولهذه الأسباب مجتمعة، تنجح الصين، على سبيل المثال لا الحصر، بمنع الانتشار الهائل لجائحة "كورونا"، وتحول دون تعريض سكانها لكارثة صحية، على غرار تلك التي تعرّضت لها دول أخرى تدّعي التقدّم الطبي والاقتصادي.
كذلك، قد تكون روح المسؤولية التي تحلّت بها الصين تجاه شعبها والعالم بأكمله السمة الأبرز التي طبعت العقود الماضية. فنلحظ مثلا، أنّ الصين تكاد تكون الوحيدة التي تبذل جهودا فعلية في سبيل الحدّ من أثار التغير المناخي، لاسيما أنّ الفترة الأخيرة شهدت صعودا للقادة الشعوبيين حول العالم، والّذين لا يولون، في حال اعترافهم به، اهتماما بالتغير المناخي، وانقساما حادا في الكونغرس الأميركي، ما يحول دون اتّخاذ خطوات جذرية في هذه المسألة، رغم تعهّدات الرئيس الأمريكي، جو بايدن في هذا المجال. وحاليا، تشكل الطاقة البديلة نسبة 13% من مجموع الطاقة المستهلكة في الصين، أي ما يفوق الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
إنّ الهدية الثانية القيمة التي قدّمتها الصين إلى العالم تتمثّل من دون شك في نموذج العلاقات الجديد الذي تطرحه، والبعيد كلّ البعد عن استغلال الدول واستتباعها. لذا، نجد البلدان العربية تتهافت لتجد لها مكانًا في المشروعات الصينية الصاعدة. فمنذ عام 2013، ساهمت مبادرة "الحزام والطريق" في تعميق العلاقات بين الصين ومعظم الدول العربية، وتجلى ذلك في معظم المشروعات والوثائق التي صدرت عن الطرفين، وفي المشروعات الضخمة التي أبصرت النور خلال السنوات الماضية، على غرار "مشروع قناة السويس الجديدة"، والذي تأمل الحكومة المصرية أن تصبح القناة من خلاله محورا لحركة التجارة العالمية بفضل طريق الحرير الصيني، بالإضافة إلى مشروع "العاصمة الإدارية الجديدة" ومشروع "منطقة السويس للتعاون الاقتصادي والتجاري الصيني- المصري" وغيرها. أمّا قطر، فأصبحت، في عام 2015، أول مركز لتسوية الرنمينبي عبر الحدود في العالم العربي. إضافة إلى ذلك، تم توقيع "الشراكة الإستراتيجية الشاملة" مع الإمارات في عام 2018، فيما تُعدّ "مدينة التنين" مركزا لرجال الأعمال الصينيين في الخليج، إلخ. ولا تقتصر هذه الأواصر المتينة على العالم العربي فحسب، إذ بلغ، على سبيل المثال، حجم التبادل التجاري لدول أمريكا اللاتينية مع جمهورية الصين الشعبية حاليا حوالي 450 مليار دولار أمريكي. وبالنسبة لجميع هذه البلدان تقريبا، أصبحت بكين شريكا تجاريا أكثر أهمية من واشنطن، كما انضم عشرون منها إلى مبادرة الحزام والطريق.
الدعاية الخاسرة
في مواجهة هذه الإنجازات، ونموذج العلاقات الجديد الذي تقدّمه بكين إلى العالم، كان لا بدّ من أن تستشرس الدعاية الغربية في التهجم على الصين، مستغلّةً بعض المناطق الحساسة فيها، على غرار منطقة شينجيانغ، حيث يتمّ إنفاق الملايين على المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام الموالية للغرب لتضخيم "أزمة حقوق الإنسان"، والزعم بأنّ إبادة جماعية تُرتكب بحق مسلمي "الويغور"، في محاولة لتشويه صورة الصين عالميا، وتحديدا في الأوساط العربية. غير أنّ للأرقام كلمة أخرى. فلمّا كان التعليم والمسكن والغذاء في مقدمة حقوق الإنسان، نجحت الصين بحلول عام 2020، في انتشال أكثر من ثلاثة ملايين شخص و35 محافظة و3666 قرية فقيرة في شينجيانغ من الفقر. وخلال السنوات الخمس الماضية، تمّ بناء أكثر من مليون و200 ألف مسكن آمن في الأرياف، واستكمال مليون و384 ألف مسكن ذي كلفة مقبولة للمواطنين، بالإضافة إلى تطبيق خطط التغطية الصحية الشاملة، ليستفيد من هذا التقدم أبناء جميع القوميات، ومن ضمنهم طبعا "الويغور". أضف إلى ذلك، أنّ حكومة شينجيانغ تعمد باستمرار إلى ترميم المساجد وتجهيزها بالمعدات الأساسية من مكيفات ومراحيض ومكاتب تضمّ أهم الكتب الدينية والثقافية. بالتالي، يصبح بالإمكان تلخيص مهمة الحكومة الصينية بمنطقة شينجيانغ في ما يلي: بعدما ارتكبت قوات انفصالية وإرهابية، منذ عام 1999 وحتى عام 2016، آلاف الجرائم في المنطقة، مما أسفر عن خسائر بشرية ومادية لا تُحصى، سعت الصين إلى تطبيق سيادة القانون والاستفادة من تجارب مكافحة الإرهاب، وتجفيف منابعه، لا سيما عبر مراكز التدريب، وتحسين الأوضاع المعيشية والتعلمية للسكان. وأخيرا، لم تشهد منطقة شينجيانغ، منذ أكثر من خمس سنوات، أي عملية إرهابية. وقد عبّر لبنان، مثلا، في الدورة السادسة والأربعين والدورة التاسعة والأربعين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة، عن "موقفه الداعم" لمنطقة شينجيانغ في مواجهة ما يتعرّض له. كما زارت سفيرة لبنان لدى الصين، ميليا جبور، منطقة شينجيانغ واطّلعت على الأوضاع فيه. وإلى جانب لبنان، تدعم أكثر من 80 دولة موقف الصين في منطقة شينجيانغ، بما في ذلك الدول الإسلامية، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة.
إلى جانب شينجيانغ، تحاول القوى الغربية تصوير أنّ ما من بلد قادر على الصعود بهذا الشكل القياسي من دون سرقة خيرات البلدان واستغلالها، كأن تتهم هذه القوى مثلا الصين بالاستيلاء على مرفأ سريلانكا، في إطار نظرية "فخ الديون"، وهو ما قام باحثون أمريكيون من جامعة "هارفارد" بنفيه من تلقاء أنفسهم، أو أنّها استولت على مطار أوغندا، قبل أن تنفي السلطات الأوغندية بدورها مثل هذه الشائعات، ناهيك عن محاولات هذه القوى استغلال جزيرة تايوان، التي كانت تاريخيا جزءا من الأراضي الصينية في محاولة لاحتواء بكين، وغيرها.
العالم الجديد
ختاما، من يراقب التغيرات العالمية في الآونة الأخيرة، ويلحظ كيف أنّ القوى الصاعدة، أي الصين وروسيا تحديدا، تفتتح صفحات جديدة من التعاون في شتى المجالات، كالفضاء والطاقة والتجارة، في مواجهة الحكم الأحادي القطب للعالم، مبشّرةً من جهة أخرى بنظام عالمي جديد، يشعر بأنّ مسؤولية معينة تقع على عاتقه. فلا شكّ أنّ على بلد يشهد أزمة اقتصادية عميقة على غرار لبنان أن يعيد النّظر في توجهاته الخارجية. وبالتالي، سيتوجّب علينا، كشباب ناشطين في الحياة السياسة، أن نسلّط الضوء على أهمية مثل هذا التعاون في المجتمع، وأن نوصل من هو مستعدّ لمدّ يد التعاون للصين ونموذجها الأكثر عدلا إلى مراكز القيادة. فالخارج ليس واحدا، وطروحاته ليست متشابهة أبدا، ومع قوى صاعدة كالصين، لن نصل فقط إلى القمر والمريخ، بل إلى العالم الجديد.. والأفضل حتما.
--
كريم حسن حيدر، عضو في الحزب الشيوعي اللبناني.