عانت العلاقات الدولية إثر إنهيار نظام القطبية الثنائية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي من سيطرة قطب واحد هيمن على مقدرات النظام الدولي. ولم يدخر هذا القطب جهدا في تكريس هيمنته وغطرسته في التعامل مع الاستحقاقات الدولية، بحيث شهدت العقود الثلاثة الماضية نظاما قطبيا ذا طبيعة أحادية صلبة قادته الولايات المتحدة الأمريكية. وأبرز ما تمخض جراء هذا الاستفراد قيام الولايات المتحدة الأمريكية بشن حربين غير مشروعتين من خلال غزو واحتلال بلدين ذي سيادة، خارج مقررات الشرعية الدولية، الأمر الذي فاقم التوتر وهدد السلم والأمن الدوليين، وأشاع الكثير من الصراعات الارتدادية والمآسي الإنسانية جراء تداعيات هذه الحروب العبثية. ولعل من نتائج هذا التهور، زيادة الإنقسام الدولي وتسارع عملية الاستقطاب وسياسة المحاور التي عمت العالم وفي مقدمتها منطقة الشرق، وهي منطقة ساخنة حافلة بالملفات الساخنة حيث تمزق الحروب بلدانا كاملة كالعراق واليمن ولبنان وسوريا، ويمثل الخليج العربي الذي شهد خلال العقود الماضية ثلاث حروب طاحنة (1980، 1991، 2003) منزلة القلب في الشرق الأوسط كونه يمثل عصب الطاقة العالمي.
أدت الكلفة الباهضة التي تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية ماديا وبشريا جراء حروبها العدوانية، إلى تراجع دورها في كثير من الساحات الدولية وتحديدا في الشرق الأوسط، فهي وإن كانت قوة عسكرية هائلة لكن مصداقيتها قد تراجعت كثيرا بسبب سياستها في ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا المنطقة.
خلفية وأبعاد الوساطة الصينية
سادت سياسة المحاور والتوتر في العقد الأخير، حيث افتقرت المنطقة إلى أي حوارات بناءة قائمة على حسن الجوار أو اللجوء إلى التسويات السلمية. وعلى العكس، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعميق الفجوة وتضخيم الشكوك بين دول المنطقة لاسيما الدول الإقليمية المحورية كإيران والسعودية اللتين تمثلان ركيزتين رئيسيتين للاستقرار في الشرق الأوسط عموما والخليج العربي على وجه الخصوص. وعلى الرغم مما كان يبدو لأول وهلة في أن الولايات المتحدة الأمريكية داعمة للمملكة العربية السعودية، فإنها من حيث التعامل قد لجأت إلى الغطرسة والأمر ذاته في التعامل مع إيران. وواضح جدا أنها كانت تتعامل، كما هو شأنها، على أساس مبدأ ثابت وهو تحقيق مصالحها ومصلحة إسرائيل، بغض النظر عن حجم الضرر أو الثمن الذي يمكن أن تدفعه المنطقة بمزيد من الحروب والكوارث، جراء الانخراط في سياسة العداء والتوتر الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وليس مبدأ الحوار وإشاعة السلم والاستقرار.
هذه الحقيقة تم إدراكها جليا من قبل قادة المنطقة، نتيجة النضج والوعي المتراكم بحجم الخسائر والثمن الباهظ الذي يدفعه الجميع دون استثناء، وإدراكهم أنه ليس هناك رابح في هذا السباق.
لم يكن التقارب السعودي- الإيراني الذي تتوج بالبيان الثلاثي في 10 مارس 2023 بإعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح سفارتيهما، يحتاج سوى لأمرين: الأول شجاعة قادة هذه الدول في اتخاذ قرار صائب يمثل مصالح شعوبهم؛ والأمر الثاني كان الحاجة لوجود وسيط شجاع وذي مصداقية يحظى بثقة الطرفين والمنطقة، ويمثل في نفس الوقت قوة عظمى تشكل نموذجا سلميا يتبنى التنمية والاقتصاد منهاجا وليس له أجندة أو نظريات عقائدية تقوم على تحقيق مصالحه بالقوة على حساب شعوب المنطقة .
جاءت الزيارة التاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية. وجاء الإعلان في 10 مارس 2023 عن اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، استجابة لمبادرة من الرئيس شي، وفي إطار دعم الصين لتطوير علاقات حُسن الجوار بين المملكة وطهران، وبناء على الاتفاق بين الرئيس شي وكل من قيادتي السعودية وإيران بأن تقوم الصين باستضافة ورعاية المباحثات بينهما، رغبة منهما في حل الخلافات من خلال الحوار والدبلوماسية، والتزاما منهما بمبادئ ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، والمواثيق والأعراف الدولية. وتضمن الاتفاق تأكيد احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأن يعقد وزيرا خارجية السعودية وإيران اجتماعا لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سُبل تعزيز العلاقات بينهما. كما اتفق الطرفان على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني المُوقعة بينهما في عام 2001، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، المُوقعة في عام 1998.
أثر التقارب على الاستقرار في الشرق الأوسط
لعل ما قاله وزير خارجية السعودية الأسبق سعود الفيصل ممازحًا في إحدى المرات: "إن السعودية لم تعقد زواجا كاثوليكيا مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل زواجا إسلاميا يسمح بتعدّد الزوجات، فالمملكة لا تريد الطلاق من واشنطن، بل ترغب فحسب في إقامة علاقات مع دول أخرى"، يؤشر بوضوح على طبيعة تقبل القيادة السعودية لفكرة الوساطة الصينية بحماسة، لاسيما في ظل التداعيات التي أفرزتها الأزمة الأوكرانية وانغماس الولايات المتحدة الأمريكية والغرب فيها وحجم القلق من فتح جبهتين لحصار الطاقة على أوروبا، أحدهما روسية في الشمال والثانية سعودية في الخليج، الأمر الذي أتاح هامشا من الحرية للسعودية للمضي قدما بالوساطة الصينية وتقبل الغرب لهذه الوساطة على مضض، وهذا أمر طبيعي جدا لكل دولة تطمح بأن تكون دولة فاعلة على المستوى الإقليمي والدولي، بما يتماهى مع مصالحها وحلفائها في المنطقة والعالم. ولهذا، فإن الوساطة الصينية لا تعني الانقلاب في العلاقات السعودية- الأمريكية، أو نتيجة لغياب الدور الأمريكي في المنطقة.
توقيت الوساطة وسرعتها جاء منسجما مع حاجة ملحة لكافة الأطراف، لذا حظيت بارتياح إقليمي ودولي وكأن الجميع كان بانتظارها، فالمنطقة تعاني من حروب وتوترات منذ سنين حرمتها من أي فرصة للتنمية بسبب عدم الاستقرار. ولا شك أن التقاطع السياسي والأيديولوجي بين طهران والرياض، ولاسيما أن لكل منهما نظاما سياسيا إسلاميا- مذهبيا، ساهم بصورة أو بأخرى في تغذية الصراعات بغطاء مذهبي وطائفي في المنطقة، سواء في لبنان واليمن وكذلك سوريا والعراق.
شكل اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران نقلة إيجابية في منحنى استقرار الشرق الأوسط، كون عدم انسجام الدولتين كان قد ساهم في عدم استقرار المنظومة الإقليمية برمتها، وهذا ما سينعكس كما متوقع سريعا على الصراع الدائر في سوريا واليمن ولبنان وحتى العراق، وذلك بحكم النفوذ الكبير الذي تتمتع به طهران في اليمن والعراق ولبنان وسوريا.
إن طبيعة هذا التقارب والرعاية الصينية قد يخلق واقعا جديدا في الشرق الأوسط، يعيد التوازن في النظام الإقليمي على أسس أكثر عقلانية تعتمد التنمية والمصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية أساسا لإدارة العلاقات، ويؤشر إلى لحظة تاريخية للتحول والإفلات من سياسة القهر والغطرسة وفرض الأجندات بالقوة التي كانت تمارسها الولايات المتحدة الامريكية على دول المنطقة تحت ذريعة تخويف كل طرف من الطرف الثاني وتضخيم الشكوك بينها.
الاستقرار الهش- الفرص والتحديات
خلاصة القول، فإن هذا التقارب كمقدمة لحلحلة أزمات المنطقة المستعصية، قد لا يروق طويلا للولايات المتحدة الأمريكية والغرب المنخرط مؤقتا في المستنقع الأوكراني، بل قد لا يروق لبعض دول المنطقة المنخرطة في سياسة التبعية والمحاور والاستقطاب. وبدون توفر إرادة حقيقية لقيادة كلا البلدين ووعي بمسؤوليتهما كدولتين إقليميتين مركزيتين في استقرار المنطقة ككل، والدفاع عن مصالحها واستقرارها، فإن هذا الإتفاق قد لا يجد طريقه للصمود طويلا، لا سيما في حال عودة الجمهوريين لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لا شك ترى في النجاح الصيني اختراقا خطيرا لمصالحها ومناطق نفوذها.
--
د. خالد المعيني، مدير مركز دجلة للتخطيط الإستراتيجي بالعراق