كلنا شرق < الرئيسية

قصتي مع الصين

: مشاركة
2024-06-24 16:48:00 الصين اليوم:Source أحلام بن إبراهيم:Author

هكذا بدأت قصة عشقي مع الصين.. بدأت منذ نعومة أظفاري إلى أن خط الشيب مفرقي.

بدأت في إحدى رياض الأطفال بباريس، حينما التقيت بأعزّ صديقة لي، ليليان وانغ، حيث كنا نقضي أيامنا في اللعب والدراسة وتبادل الزيارات. ومع أنني كنت صغيرة جدا في ذلك الوقت، ما زلت أذكر إلى الآن ذلك اليوم الذي دعتنا فيه عائلتها إلى بيتهم للاحتفال بعيد الربيع الصيني. لم أكن أعرف وقتها ما هو هذا العيد أو أهميته لدى الصينيين، وانبهرت أنا وعائلتي بالاستقبال الحار الذي لقيناه والأطعمة اللذيذة التي تذوقناها لأول مرة، والجو العائلي اللطيف الذي غمرنا في تلك الأمسية. وأكثر ما خلد بذهني في ذلك اليوم هو أنني تعلمت أول كلمة باللغة الصينية وهي "谢谢" (شكرا)، وأذكر أنني بقيت أردد تلك الكلمة طوال الليل إلى أن غلبني النعاس لتبقى محفورة في ذاكرتي. ومنذ تلك اللحظة أيقنت أنني عثرت على وجهتي وأحكمت القبضة على قدري.

عندما عدت إلى تونس لاستكمال دراستي، لم تنقطع المراسلة بيني وبين صديقتي ليليان، وزاد فضولي لمعرفة المزيد عن الثقافة الصينية، التي كانت تبدو لي غامضة ومثيرة، خاصة وأن لها تاريخا ممتدا خمسة آلاف سنة. بدأت أقرأ ما توفر من المعلومات حول تاريخ وثقافة الصين، في وقت لم يكن فيه إنترنت ولم تكن المعلومات متاحة كما هي الآن. كنت أطوف على المكتبات أحاول إيجاد أي معلومات تشبع شغفي لكل ما هو صيني.

وفي إحدى العطلات الصيفية، قررت صديقتي ليليان أن تأتي لزيارتي في تونس. كنت متحمسة جدا لأنني لم أرها لسنوات عديدة. أخذتها في جولة لأهم المدن التونسية، زرنا المعالم الأثرية واستمتعنا بالسباحة في مياه البحر الأبيض المتوسط، وخضنا تجربة ركوب الجمال في قلب الصحراء الكبرى، حتى أنني أخذتها لزفاف أمازيغي تقليدي لأحد أقاربي. انبهرت ليليان وعائلتها بجمال تونس وحضارتها وثقافتها، وطبعا كعادتي لم أفوت فرصة السؤال عن الصين في كل مناسبة أجدها: ما هي أهم المعالم الأثرية الصينية؟ أين تقع أجمل الشواطئ الصينية؟ هل هناك صحراء رملية في الصين؟ ما هي أهم مراسم الزفاف التقليدي في الصين؟ لدرجة أنني كنت أتحرّج أحيانا من كثرة الأسئلة التي طرحتها.

بعد مرور سنوات حصلت على شهادة البكالوريا (شهادة إتمام التعليم الثانوي)، وقد كنت محظوظة لأن اللغة الصينية أصبحت ضمن الاختصاصات التي يمكن اختيارها في الجامعة، ولم أتردد في أن أضعها كاختيار أول، فأنا أؤمن بأن أفضل وسيلة لمعرفة ثقافة ما وفهمها جيدا هو من خلال إتقان لغتها.

تميزت في دراسة اللغة الصينية وكنت الأولى على مستوى الجامعة، فما من مرء أحب شيئا ولم يتميز فيه، وسر النجاح هو أن تسعى وراء ما أنت مولع به لأنك ستقدم الأفضل، ذلك ما أردده على طلابي اليوم.

لم تسعني الفرحة عندما حصلت على منحة دراسية من الحكومة الصينية في عام 2001 لمدة سنة. فأخيرا جاءت الفرصة التي انتظرتها طويلا. وحتى أكون صريحة، فإن أول أسبوع لي في بكين كان صعبا جدا، شعرت بالغربة، فقد بدا لي كل شيء مختلفا؛ الناس من حولي، الأكل، السكن، وحتى التوقيت (باعتبار أن هناك فارق توقيت يصل إلى سبع ساعات بين بكين وتونس)، واشتقت إلى عائلتي فلم تكن وسائل التواصل متاحة كما هي اليوم، ولم أكن قد اعتدت بعد على الأطعمة الصينية، ولم أكن أعرف من أين أقتني احتياجاتي. لم تكن مشكلتي في التواصل مع الآخرين، لأنني كنت قد أتقنت نزرا يسيرا من اللغة الصينية، بل كانت مشكلتي أنني كنت شابة خجولة في مقتبل العمر، وكانت أول تجربة أخوضها بنفسي دون إحاطة من عائلتي. ولكن اليوم، أصبحت الصين وطني الثاني وجزءا مهما من حياتي لا أستطيع الاستغناء عنه أبدا.

طبعا، لم أنس إخبار صديقتي ليليان بزيارتي إلى الصين، لم تستطع هي العودة خلال فترة تواجدي هناك، لكنها أرسلت لي عنوان جدتها ورقم هاتفها، وأصرت أن أذهب لزيارتها، ولم أتردد في ذلك. كان بيت جدة ليليان أول بيت صيني أدخله. كان بيتها بعيدا عن الجامعة في الأزقة القديمة، يتكون من عدة غرف تطل على الجهات الأربع حول الفناء مما يعطيها شكلا مربعا. وكعادة أهل بكين، استقبلتني جدة ليليان بحفاوة كبيرة، جهزت لي شاي الياسمين وبقينا نتحدث لساعات، أخبرتني بأن الأزقة القديمة تم إنشاؤها خلال فترة أسر يوان ومينغ وتشينغ، وحدثتني عن طفولتها وأن هذا البيت يعود إلى أهلها منذ زمن بعيد، وكيف أنها تشتاق لحفيدتها (ليليان) وتنتظر عودتها في العطل كل مرة. سألتها لم لا تزورينها في فرنسا، فأجابتني بابتسامة عريضة على شفتيها: "المسافة بعيدة، وأنا لا أحب أن أترك بيتي، من يريدني يأتيني."

عدت في صيف عام 2002 إلى تونس وحدثت كل من أعرفه عن سحر هذه البلاد. وفي عام 2004 حصلت مرة أخرى على منحة دراسية من الحكومة الصينية لاستكمال دراستي في الصين. شعرت بفرحة عارمة لأنني منذ عدت إلى تونس أحسست أنني لم أتشبع من زيارتي الأولى، وما زلت لا أعرف الكثير. ونظرا لطبيعة دراستي الأكاديمية هذه المرة، فقد تسنى لي العمل كمترجمة، مما جعلني أندمج أكثر في المجتمع الصيني وأكون شاهدة عيان على تطور هذا البلد على جميع المستويات، وانغمست في ثقافته من تاريخ وفن وأدب واقتصاد، وغمرني أهله بالحب والكرم، وكونت علاقات وثيقة حتى أصبحت واحدة من هذا المجتمع.

وحينما كنت بصدد التجهيز لرسالة الدكتوراه، أُتيحت لي فرصة للتدرّب في الملحقية التجارية بسفارة المملكة العربية السعودية كأخصائية في الاقتصاد والاستثمار، وقد تألقت في هذا العمل، حيث نجحت في دعم التبادل التجاري وتعزيز الاستثمارات بين الصين والسعودية، بالإضافة الى تطوير العلاقات مع عدد من الشركات الصينية ومختلف السفارات الأجنبية. وبعد أن حصلت على شهادة الدكتوراه، أصرت السفارة على انتدابي للعمل معهم بدوام كامل، ولم يكن ذلك هدفي، فقد كان لي حلم آخر هو أن أصبح أستاذة جامعية.

خلال فترة الدراسات العليا، تأثرت جدا بالأستاذ المشرف على رسالتي، فقد كانت حماسته في الدرس تشدني للاستماع. كان واثقا من نفسه، كثير المعرفة، لا يُطرح سؤال إلا وكانت لديه الإجابة عليه، كان فعلا قدوة لي. بقي هذا الحلم معلقا لسنوات، وأنا أوصي كل صديق أعرفه، إن علم عن أي فرصة عمل في مجال التعليم أن يخبرني مباشرة، بعضهم كان مستغربا لم أريد أن أترك عملا مستقرا بالسفارة وبراتب جيد! بالنسبة لي الربح المادي ليس هدفا، المهم أن أحقق حلمي وأن أحب ما أفعل.

ولم يذهب انتظاري سدى، ففي أحد الأيام تواصل معي أحد الأصدقاء وأخبرني بوجود فرصة عمل كأستاذة لغة عربية في جامعة الدراسات الدولية ببكين. اجتاحتني غبطة جارفة ولم أتردد في التقديم على هذه الوظيفة، ونجحت في الحصول على قبول من الجامعة لأكون أحد أساتذة اللغة العربية فيها، وأنا فخورة بذلك وممتنة لجامعة الدراسات الدولية ببكين لمنحي هذه الفرصة وتحقيق حلم انتظرته طويلا.

أدين للصين بالكثير وحان الوقت لأرد بعض هذا الدين. عمل الأستاذ ليس هينا أبدا كما يعتقد بعض الناس، فالأستاذ يعمل طوال الوقت على إثارة دافعية الطالب وتحسين تحصيله بشتى الوسائل والتقنيات، والأستاذ المخلص هو الذي يوجّه الطلاب بأفضل ما لديه من قدرات ويتعامل مع الأمور بصبر.

طلابي هم أولويتي وما أعيشه معهم كل يوم هو تحد جديد ومتعة جديدة. مثابرتهم واجتهادهم يجعلاني أتحمس أكثر وأجتهد أكثر لأقدم لهم الأفضل، حيث أحرص وأنا أجهز محاضراتي على أن يكون محتواها نافعا لهم في حياتهم العملية مستقبلا. كما أحرص على أن تكون لي علاقة جيدة معهم لأن ذلك يمكّنني من إنشاء فهم أقوى لما يحتاجونه ويمكّنني من تكييف أنشطة الفصل الدراسي لتلبية احتياجاتهم بشكل أفضل ومساعدتهم على تطوير مستواهم. في نفس الوقت بناء مثل هذه العلاقة، يمكن أن يجعل من الطالب أكثر انفتاحا للتعلم وأكثر جرأة للمشاركة في الفصل والتواصل مع الأستاذ إذا كانت لديه مشكلة في موضوع دراسي معين، فيصبح الطالب مندفعا أكثر للعمل بجد لأنه يعلم أن أستاذه يريد مصلحته بصدق.

تجمعني علاقة ود واحترام متبادل مع كل طلابي فأنا أقضي معهم معظم يومي، وأتمنى دائما أن أوفق في مدّهم بالإضافة التي يحتاجونها لبناء مستقبل باهر يواكب ركب الحضارة والاقتصاد في هذا البلد العتيد، خاصة وأنني قد قضيت عشرين سنة من حياتي هنا، وشهدت بأم عيني تطور العلاقات بين الصين والدول العربية، حيث أنه في السنوات العشر الأخيرة، أي منذ انتخاب الرئيس شي جين بينغ كرئيس للدولة، تم توقيع عدد كبير من اتفاقيات التعاون على كافة الأصعدة، وسأخص بالذكر هنا المجال الثقافي، فبفضل هذه الاتفاقيات، ارتفع استقطاب الطلاب بين الجانبين بنسق سريع، وازداد تنظيم التظاهرات الثقافية المشتركة، كما عجّت المعاهد والجامعات العربية بالطلاب المقبلين على دراسة اللغة الصينية، مما عزز حركة الترجمة بين اللغتين والتي تمثل جسرا مهما للتبادل الثقافي والتواصل الإنساني. وأنا شخصيا إحدى المستفيدات من ذلك، حيث أنني كنت مشرفة على ترجمة ودبلجة عدد كبير من المسلسلات والوثائقيات والصور المتحركة، ومازالت أطمح في أن تكون لي مساهمات وباع أكبر في ترجمة المقالات والكتب إلى اللغة العربية، وكلي ثقة بأنني سأكون طرفا فعالا في المزيد من المشروعات في المستقبل القريب لما تشهده العلاقات من تطور سريع في هذا النطاق. وباعتباري أستاذة ترجمة في جامعة الدراسات الدولية ببكين، فإن كل تجربة أخوضها في هذا المجال تعطيني إضافة لي وتقودني بخطى ثابتة في عملي، حتى أوفق في تعليم الأجيال القادمة من الشباب وتسليمهم المشعل للمساهمة في بناء روابط أكثر متانة بين الطرفين.

أعتبر نفسي محظوظة جدا، لأن الأقدار سخرت لي دراسة اللغة الصينية والمجيء إلى الصين وممارسة مهنة التعليم. صديقتي ليليان تقول لي دائما إنني أصبحت نصف صينية، وأنا أفتخر بذلك، فالصين حكومة وشعبا قدوة علينا الاحتذاء بها.

--

أحلام بن إبراهيم، تونسية الجنسية، أستاذة للغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4