كلنا شرق < الرئيسية

من الأسطورة إلى الوجه الآخر للقمر.. قصة حضارة

: مشاركة
2024-07-10 17:03:00 الصين اليوم:Source محمد حسين أبو العلا:Author

يظل الفضاء بكل أبعاده وخفاياه وأسراره وأعماقه اللامتناهية لغزا تاريخيا مستقبليا أبديا، لكنه يظل كذلك هو الملاذ الأخير للبشرية هروبا من كوكب الأرض، ذلك الكوكب البائس الذي تفاعلت وتواطأت الكتلة الغربية لتدميره وإبادته بما حققته من تصارع محموم حول بلوغ أعلى معدلات التلوث.

 لذا كانت الحياة على القمر هي المطمح والغاية الإستراتيجية المتسابق عليها، إذ أكد علماء الفضاء أن البشرية تحتاج إلى الوصول للقمر لتتعلم كيفية العيش في الفضاء، وتتعلم كذلك كيفية الاستفادة القصوى من موارد الفضاء. وعلى ذلك، يمثل البحث في موارد القمر نقطة الانطلاق لجميع الثروات الهائلة في الكون، ومن ثم صار بلوغ القمر هو المفتاح السحري، أو كنز الطبيعة الذي تسعى كبريات الدول وحكومات العالم لتحكم قبضتها المطلقة على ثرواته والتي منها المعادن الأرضية النادرة ومعدن الهيليوم المتراكم على سطح القمر والذي يمكن توظيفه لتشغيل مفاعلات الاندماج النووي. وكذلك، إمكانياته الفذة في تزويد الكرة الأرضية بأكملها بالطاقة ولعدة قرون، بجانب استخدام الماء الموجود على سطح القمر لصنع وقود الصواريخ، وهو ما يعني بالضرورة أن يصبح القمر محطة مركزية للتزود بالوقود للصواريخ.

 وطبقا لكل هذه المعطيات، كانت الانطلاقة الصينية الجبارة نحو القمر بل نحو الجزء المظلم من القمر، وهي انطلاقة غير مسبوقة من قبل كافة الدول المتصارعة. لكن كانت الصين هي الساعية لإحضار عينات من الصخور والتربة القمرية وإعادتها للأرض عن طريق صاروخ "المسيرة الطويلة".

 وبذلك، تجدد الصين تلك الأسطورة الشعبية وتحولها لواقع مذهل.. أسطورة إلهة القمر "تشانغ آه" التي احتشدت بها الملاحم والروايات، لما تحمل من رمزيات مثيرة، أولها أنها قد هربت إلى القمر واتهمت بسرقة عقار الخلود. ورغم الهوة التاريخية، تستلهم الصين تلك الإبداعية وتطرحها على الساحة الكونية لتحقق بها قفزة جديدة.. قفزة ريادية على الصعيد العلمي والتكنولوجي والسياسي والثقافي.

 وبالطبع، يمثل ذلك تجسيدا مباشرا للحلم الأبدي للرئيس الصيني شي جين بينغ في تحويل بلاده إلى قوة فضائية، وهو ما قد تصادم مؤخرا مع الذات الأمريكية التي تأبى دائما الخروج من دائرة التفوق والسبق والسيطرة والاستحواذ.. تأبى إلا أن تكون في المقدمة حتى لو كان المقابل هو تقويض الكيانات الأخرى.

 وطبقا لهذا، لم تهدأ ثائرة الولايات المتحدة الأمريكية إلا بعد إطلاق التحذيرات المدوية من دعم وتعزيز الصين لقدراتها الفضائية باستخدام برامج مدنية لإخفاء أهداف عسكرية، وهو ما يستدعي- في رؤية الأمريكيين- أن تظل واشنطن يقظة مترقبة. لأنه إذا وصلت الصين أولا فلن تسمح لأي كيان أن يشاركها ولو بوطأة قدم، أملا في السيطرة الكاملة على الموارد القمرية واحتكارها. بينما الموقف الصينى يحمل توجها إنسانيا نحو الطمأنة والاستقرار، استنادا على أن كافة الاتفاقيات الدولية لا تسمح بالاستيلاء على موارد القمر بجانب أن "تشانغ آه" هو جزء من مشروع ممتد لبناء محطة أبحاث دائمة على القمر، مسماها محطة الأبحاث القمرية الدولية بقيادة الصين وروسيا.

 ولعل كل هذا الضجيج السياسي الأمريكي تجاه المسار الإستراتيجي للصين، لاسيما ما يرتبط بساحة الفضاء، يجعلنا نتساءل: لماذا لم يسبب الإعلان عن برنامج (أرتيميس) الأمريكي استياء وغضبا صينيا يستدعي إطلاق التصريحات النارية؟ ولماذا لم تكترث الولايات المتحدة الأمريكية بتحذيرات موسكو من استغلال شركة (سبيس) التي تدير برنامجا لبناء شبكة من أقمار عسكرية تجسسية؟ وما هي الإضافة التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه كشفها عن عمليات تطوير سلاح نووي روسي مضاد للأقمار الاصطناعية؟ وهل تمتثل الولايات المتحدة الأمريكية لبنود معاهدة الفضاء الخارجي التي تحظر على الدول الموقعة وضع أسلحة نووية أو أي أسلحة دمار شامل أخرى أو تثبيتها على سطح القمر أو أي جرم سماوي؟

 وإذا كانت الكيانات الكبرى لديها إرادة شرسة في المنافسة لاستعمار الفضاء وإدارة الحروب النووية من زواياه.. فهل تتحول معاهدة الفضاء الخارجي إلى قصاصة غير ذات قيمة؟ وإذا كان الفضاء هو ساحة جديدة لهروب البشر من الكوكب الأرضي الذي اجتاحه طوفان التلوث وطوقته الحروب وبات أهله يتضورون جوعا وصار فيه إنسان الحضارة المعاصرة مقهورا عاجزا عن سحق الأزمات.. فهل تصبح ساحة الفضاء هي مدينة السلام والعدالة والحرية والإخاء والمساواة، لاسيما وقد تصاعدت حدة الصراعات بين الكيانات الكبرى صاحبة الكلمة العليا في تقرير مصيره؟

إن منطق المصارحة والمكاشفة وضرورة وجود عقد اجتماعي إنساني، قد أصبح يمثل ضرورة حيوية لإنقاذ البشر قبل الأرض والفضاء، وإن هذا المنطق إنما يحتم تحجيم المصالح نسبيا بما لا يضير الآخر وإن آليات الجموح والشطح السياسي لا تقود إلا إلى عواقب كارثية بدأت تتجلى في الأفق ويحصد الجمع البشري آثارها الوخيمة التي تتضاعف مع إشراقة كل شمس.

 إن التعاطي مع المعضلات الإنسانية، بالطبع له أسلوب ومنطق مستقل، قوامه أن استطاعة التفوق على الغير لا يمكن أن تكون سببا وأداة للتعويق، بجانب أن استمرارية التنمر والتحفز من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الصين توحي دائما بمدى التراجع الأمريكي مع كل انطلاقة لم تستطع أن تواكبها أو تتميز عليها.

 وبصفة عامة، إن سياقات التقدم العلمي والتكنولوجي التي تحرزها بعض الأطراف دائما ما تحقق دافعية لدى الأطراف الأخرى، ولا تعد بحال مدعاة للتآمر وإشعال الصراعات التي تعرقل حركة التقدم ذاته، وبالتالي يبدأ العالم جولة جديدة من الصراعات الصفرية التي يكون إنجازها الأكبر هو الحاق الخسائر الفادحة بكافة أطراف اللعبة الكونية، وهي نتيجة سلبية تخرج عن إطار المعتقد الفكري الإنساني.

--

د. محمد حسين أبو العلا، كاتب وأستاذ علم الاجتماع السياسي- مصر.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4