كلنا شرق < الرئيسية

التنمية الاقتصادية في الصين.. تحديات داخلية وتهديدات عالمية

: مشاركة
2024-07-16 12:14:00 الصين اليوم:Source د. خديجة عرفة:Author

تعقد في شهر يوليو 2024 الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني، والتي تناقش القضايا المرتبطة بمواصلة تعميق الإصلاح الاقتصادي ودفع التحديث الصيني النمط، وفقا لما تم الاتفاق بشأنه في اجتماع المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب في إبريل 2024؛ إذ سيقوم المكتب السياسي بتقديم تقرير للجنة يركز بالأساس على تحليل الوضع الاقتصادي الحالي في البلاد.

ويُشكل ملف الإصلاح والتنمية الاقتصادية في البلاد أحد القضايا المحورية التي حظيت باهتمام سياسي وشعبي منذ عقود، مما مكن البلاد من مواكبة سريعة لمتطلبات العصر استنادا لمعدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي القائم على المحافظة على النمط الصيني للإصلاح، مع الانفتاح على العالم الخارجي عبر سياسة متوازنة، وبما يخدم المسار التنموي بصورة أساسية.

وقد شكل تحقيق التنمية الاقتصادية أولوية كبيرة بالنسبة للحزب الشيوعي الصيني منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين؛ بحيث ارتكزت سياسة البلاد على تحقيق الموازنة بين التحرك على المسارين الداخلي والخارجي نحو خدمة هذا الهدف. مع ربط الحزب بين التنمية بشقيها السياسي والاقتصادي؛ من خلال ربط المشروعية السياسية بتحقيق التنمية الاقتصادية. وهو ما انعكس على شعبية الحزب الشيوعي الصيني على المستوى الداخلي والتي تجاوزت الـ90% وفقا لأحدث استطلاعات الرأي العام.

هذا المسار التنموي والنجاح الذي تحقق في الصين على مدار نصف قرن تقريبا، يواجه في الوقت الراهن جملة من التحديات، وهي مزيج من التحديات الداخلية والتهديدات النابعة من البيئة الخارجية. وتتمثل الأخيرة في تزايد التحديات المؤثرة على التنمية الاقتصادي في العالم بشكل غير مسبوق في ظل العديد من العوامل الجيوسياسية والتوترات المتزايدة في العديد من المناطق الحيوية ذات الأهمية الجيواقتصادية عالميا. إضافة إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي والإجراءات الحمائية المفروضة وغير ذلك من العوامل. يُضاف لذلك، التحديات الداخلية المرتبطة بأزمة القطاع العقاري في الصين، والديون المحلية، والنقاش بشأن مسار الإصلاح الأفضل، وكذلك العلاقة بين الحكومة والقطاع الخاص، والجدل بشأن التداعيات المحتملة لبعض السياسات التحفيزية التي قد يتم تبنيها من قبل الحكومة لدعم بعض القطاعات.

هذه التحديات توضح أهمية الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني، في مناقشة مجموعة من السياسات الداعمة للمسار التنموي في الصين؛ عبر مناقشة آليات تنفيذ فلسفة التنمية الجديدة في الصين في إطار صيغة أنسب يمكنها التعامل مع التحديات المتزايدة. كما تبرز أهمية هذه الجلسة في ظل توقيت انعقادها؛ فمن ناحية يُصادف العام الجاري مرور 75 عاما على تأسيس الجمهورية الصينية الشعبية، كما يُشكل العام الجاري عاما له أهميته في مسار التنمية في الصين في ظل عدم تمكن الاقتصاد الصيني من التعافي بصورة كاملة بعد أزمة الإغلاق الاقتصادي كنتيجة لأزمة كورونا، ليعود للوضع السابق للأزمة؛ بحيث يصبح عاما مؤثرا في مسار التعافي الصيني. وعلى المستوى الخارجي، يواجه العالم تحديات غير مسبوق على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية والتي سيكون لها تأثيرها على دول وأقاليم مختلفة، وتزداد حدة تلك التداعيات على الصين في ظل تشابك اقتصاد الصين مع الاقتصاد العالمي، ففي ظل سياسة الانفتاح الصيني على العالم الخارجي، يجعلها ذلك شديدة التأثير بالتهديدات النابعة من البيئة الخارجية. إذ تُعدّ الصين حاليا ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتقوم بدور مهم كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي العالمي. كما تزداد المنافسة التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بشكل ينعكس على مجمل التجارة العالمية.

خصوصية التوقيت وتشابك التحديات الداخلية والتهديدات النابعة من البيئة الخارجية تُبرز أهمية هذه الجلسة الكاملة، إذ من المتوقع أن تعيد التأكيد على إصرار الحكومة على المضي قدما في مسار التنمية المحدد للبلاد. فوفقا لتقرير الحكومة في بداية عام 2024 عن مسار التنمية خلال العام، فقد تم تحديد هدف تحقيق معدل نمو 5%، وهو أقل بنسبة طفيفة من المعدل المحقق في عام 2023 والذي بلغ 2ر5%، حيث أكد التقرير على "الدفع بقوة نحو بناء النظام الصناعي الحديث وتطوير القوى المنتجة الحديثة النوعية بوتيرة أسرع". وهذا الهدف الأخير- الخاص بالقوى المنتجة- يعكس توجها جديدا للتنمية الاقتصادية وبما يُسهم في تسريع مسار التحول الاقتصادي في البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن البيئة الصناعية الفريدة والمتميزة شكلت عنصر نجاح مهما لمسار التنمية في الصين، حيث يوجد لدى الصين أكبر منظومة صناعية بالعالم.

وفي هذا السياق أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن تحقيق هذا الهدف لا يعني بأي حال إهمال الصناعات التقليدية في البلاد وإنما يعني دخول التنمية الاقتصادية في البلاد إلى مرحلة جديدة. وبذلك، تسعى الصين للتحول من النمو العالي السرعة إلى النمو العالي الجودة، مع التركيز على تطوير القوى المنتجة الحديثة النوعية. وقد حدد تقرير الحكومة عشرة مجالات للقوى المنتجة الحديثة النوعية من بينها: اقتصاد الارتفاعات المنخفضة، البيانات الضخمة، الذكاء الاصطناعي، الطاقة الهيدروجينية، مركبات الطاقة الجديدة المتصلة بالشبكة الذكية، وغير ذلك.

ومن أجل التحرك في تلك المجالات المهمة للاقتصاد الصيني وغيرها، حدد تقرير الحكومة هدفا في عام 2024 متمثلا في خلق أكثر من 12 مليون وظيفة في المناطق الحضرية، مع إبقاء مستوى البطالة في المناطق الحضرية عن المستوى ذاته والبالغ 5ر5%، مع جعل مستوى التضخم في البلد عند 3%. لذا، فإن ملف التصنيع من الملفات التي سيتم التأكيد- خلال الجلسة- على أهميتها ودورها في دعم النمو الاقتصادي في البلاد. وفي هذا السياق وضعت الصين خطة لتحديث معدات المصانع بقيمة 5 تريليونات دولار أمريكي، وقد تم الكشف عن ذلك خلال الدورة السنوية للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني 2024 الذي يُعدّ الهيئة التشريعية العليا بالبلاد، حيث تم وضع الخطوط العريضة لسياسات البلاد لعام 2024 في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. إضافة إلى خطة بقيمة 140 تريليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 3ر7 يوانات تقريبا حاليا) في صورة سندات طويلة الأمد، بهدف تعزيز الصناعات ذات الطبيعة التكنولوجية وخاصة في مجال الطاقة النظيفة. كما تم الإعلان عن 9ر3 تريليونات يوان من السندات ذات الأغراض الحكومية.

الهدف الرئيسي للصين في عام 2024 هو تحقيق التعافي الاقتصادي، في ظل المشكلات التي يُعانيها الاقتصاد الصيني الذي لم يتعاف بصورة كاملة منذ رفع القيود وإلغاء سياسة الإغلاق. فرغم تحقيق الاقتصاد الصيني معدل نمو بلغ 2ر5% في عام 2023، إلا أن التعافي الاقتصادي لا يزال ضعيفا. ووفقا لتقديرات البنك الدولي، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد الصيني معدلات نمو منخفضة مقارنة بعام 2023 ليحقق في عام 2024 معدل نمو يبلغ 5ر4%. وهو المعدل ذاته الذي توقعته وكالة بلومبرغ. إلا أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية خلال الأشهر الأخيرة والمتوقع تبنيها خلال الفترة المقبلة كانت أكثر تفاؤلا، مع توقعات بأن تتجاوز الصين المعدل المستهدف من قبل الحكومة، فخلال الربع الأول من عام 2024 بلغ معدل نمو الاقتصاد الصيني 3ر5%.

وفي هذا السياق من المهم أن تتخذ الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني مجموعة من التدابير التحفيزية الإضافية للمساعدة على تحقيق تلك الأهداف، من بينها تحفيز الإنفاق الاستهلاكي لمواجهة مشكلة ضعف الطلب الاستهلاكي في الوقت الراهن، وتقديم حوافز للأسر لاستبدال المركبات القديمة بأخرى حديثة وإعادة تصميم المنازل باستخدام الطاقة النظيفة. وكذلك حل أزمة العقارات والديون المحلية للحكومات، وتقديم الدعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، لدورها المهم في الاقتصاد الصيني. وخلال الأشهر الأخيرة قدمت الحكومة الصينية العديد من المبادرات الهادفة إلى تنشيط الإنفاق الاستهلاكي، ودعم القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات الأجنبية. إضافة إلى معالجة المشكلة التي يُعانيها قطاع العقارات الصيني عبر تقديم المساعدات للمطورين العقاريين المتعثرين وتخفيف القيود المفروضة على الحصول على قروض عقارية.

ووفقا لتقرير عمل الحكومة لعام 2024، تم طرح برنامج لمدة ست سنوات من أجل تحفيز الاستهلاك. مع التركيز على تعزيز الاستهلاك الرقمي الصديق للبيئة، وزيادة الاستثمار الفعّال عبر تخصيص 700 مليار يوان من ميزانية الحكومة لدعم وتشجيع الاستثمار. إضافة إلى تحديث النظام الصناعي، والعمل على تحسين بيئة الأعمال بشكل مستمر بما يُسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية.

ومع التأكيد على أهمية تلك الإجراءات والحوافز وكذلك دور الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني في طرح تدابير إضافية، فمن المهم أن تناقش الجلسة مخاوف بعض الفئات. فهناك مخاوف لدى بعض رجال الصناعة في الصين من المقترح الخاص بزيادة الاستثمار في صناديق الاستثمار الخاصة؛ خوفا من أن يؤثر ذلك على الشركات الناشئة. وتجدر الإشارة إلى أن القطاع الخاص يقوم بدور مهم في الاقتصاد الصيني، حيث عمل الحزب الشيوعي الصيني على تشجيع مشاركة القطاع الخاص بحيوية في مسار وعملية التنمية بالبلاد، وكذلك تطوير ودعم ريادة الأعمال ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، حيث اقتصر دور الشركات المملوكة للدولة على الصناعات الإستراتيجية وترك للقطاع الخاص باقي القطاعات، لتبلغ مساهمته نحو 60% في الاقتصاد الوطني (وفقا لمجموع الضرائب المتحصلة). لذا، من المهم التركيز على تعزيز ثقة المستثمر، وبما يُسهم في جذب المزيد من الاستثمارات الطويلة الأجل. كما أن أحد عوامل النجاح التي من المهم التأكيد عليها هي التنسيق بين السياسات على المستويين الداخلي والخارجي؛ إذ يُشكل وجود تضارب بين السياسات أحد أبرز العقبات في مسارات التنمية في الدول المختلفة، خاصة مع تبني الصين لاقتصاد مرن تمكن من تخطي العديد من الأزمات الداخلية والخارجية.

وخارجيا، نجحت الصين خلال العقود الماضية في تحقيق الانفتاح على العالم الخارجي والشراكة في العديد من المجالات التجارية والاستثمارية، وفي الوقت الراهن تُعدّ الصين شريكا تجاريا لنحو 130 دولة في العالم، وخلال عام 2023، بلغ حجم تجارة الصين الخارجية 76ر41 تريليون يوان، كما بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر بالصين خلال الخمسة أشهر الأولى من عام 2024 نحو 58 مليار دولار أمريكي. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال أول شهرين من عام 2024، ارتفعت قيمة الصادرات الصينية بنسبة 10% مقارنة بنفس الفترة من العام السابق. وفي الوقت الراهن، تركز الصين على زيادة قيمة صادراتها للعالم الخارجي، مع الترويج للمنتجات العالية القيمة.

أحد العوامل التي عززت من تجارة الصين مع العالم الخارجي، توافر إطار ومبادرات مهمة للتعاون وفي مقدمتها مبادرة "الحزام والطريق" والتي أعلن عنها الرئيس شي في عام 2013. فقد ارتفع حجم تجارة الصين مع الدول المشاركة في بناء "الحزام والطريق" بنسبة 4ر19% في عام 2022 مقارنة بالعام الأسبق، إذ وقعت الصين اتفاقيات تعاون في بناء "الحزام والطريق" مع 151 دولة و32 منظمة دولية. وفي إطار المشروع يمكن الإشارة إلى الجسر البري الأوراسي الذي يربط الموانئ الصينية بالمدن الأوروبية من خلال مجموعة من السكك الحديدية؛ حيث يمتد من شرقي الصين إلى وسط وشرقي أوروبا عبر آسيا. وفي الوقت الراهن، يمر الجسر البري الأوراسي الجديد عبر 11 دولة و100 مدينة آسيوية ليصل إلى نحو 200 مدينة في 25 دولة أوروبية.

وفي هذا السياق تواجه الصين مجموعة من التحديات النابعة من الخارج، من بينها التوترات الجيوسياسية والتي تؤثر على طرق النقل ومصالحها الاقتصادية في الخارج، حتى وإن كان للبعض منها انعكاسات إيجابية فهي مؤقتة، فقد أسهمت الهجمات في البحر الأحمر في زيادة الطلب على استخدام السكك الحديدية في نقل البضائع بين الصين وأوروبا. وقد زاد الطلب على السكك الحديدية في يناير عام 2024 بمعدل 37%. لكن تأثير تلك الهجمات على أمن الملاحة والمصالح الصينية أكبر من مجرد زيادة الطلب على السكك الحديدية الصينية.

على الجانب الآخر، في ضوء الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، اتجهت الأخيرة لفرض مجموعة من القيود في مواجهة البضائع الصينية، وكان أحدثها في مايو 2024، حيث أعلن البيت الأبيض عن زيادة الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية من السلع الصينية بقيمة 18 مليار دولار أمريكي، حيث سيتم رفع الرسوم على استيراد أشباه الموصلات الصينية من 25% إلى 50%، أما الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية فستزيد من 25% إلى 100%، وبالنسبة لمنتجات الصلب والألومنيوم فسيتم رفع الرسوم الجمركية من 5ر7% إلى 25%، أما المعادن النادرة فستزيد من صفر إلى 25%. وهذا ما دفع منظمة التجارة العالمية للإعلان عن أن الإجراءات الأمريكية من شأنها أن تؤدي إلى تباطؤ انتعاش التجارة العالمية. وخلال الدورة السنوية للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني 2024، أقر وانغ ون تاو وزير التجارة الصيني، بالتهديدات النابعة من البيئة الخارجية وانعكاسها على مسار التنمية في البلاد، وفي مقدمتها التدابير والإجراءات الحمائية المفروضة من قبل الدول والتي انعكست على التجارة الخارجية والتي زادت بنسبة 2ر0% فقط في عام 2023، وفقا لما أعلنته منظمة التجارة العالمية.

وفي ضوء خطورة التوترات السياسية المتزايدة والإجراءات الأحادية على الاقتصاد العالمي، فمن المتوقع أن يتم التأكيد خلال الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني على الرؤية الصينية والخاصة بحوكمة النظام المالي العالمي، إذ تطرح الصين رؤيتها بشأن النظام المالي العالمي وأهمية إحداث تغيير في القواعد المالية الحاكمة، خاصة أن دول الجنوب تدعم الرؤية الصينية في مواجهة السياسات الأحادية الأمريكية.

وختاما، يواجه النظام الإيكولوجي المعزز للتنمية في الصين داخليا وخارجيا في الوقت الراهن مجموعة من التحديات، حيث سيكون عام 2024 فاصلا فيما يتعلق بمواجهة تلك التحديات للمساعدة على تعافي الاقتصاد الصيني. فالصين تتحرك حاليا في مسارها للتنمية في ظل بيئة داخلية وخارجية يغلب عليها عدم اليقين، بما يتطلبه ذلك من تحرك على العديد من المسارات بصورة متكاملة ومترابطة وكذلك تأكيد الرؤية الصينية فيما يتعلق بالتنمية والإصلاح محليا وعالميا.

--

د. خديجة عرفة، باحثة سياسية من مصر.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4