كلنا شرق < الرئيسية

السعي وراء الأحلام بين أوراق الشاي

: مشاركة
2025-01-22 12:05:00 :Source يوسف علي:Author

في مساء هادئ، وبينما كنت غارقا في أفكاري وأوراقي المتناثرة، اهتز هاتفي ليكسر سكون اللحظة. كانت رسالة من جامعة بكين للغات، تحمل في طياتها خبرا بدا كأنه مفتاح لباب سحري. أبلغتني مسؤولة تنظيم الفعاليات بأنني قد رشحت للمشاركة في الدورة الثانية من مؤتمر علماء الصينيات العالمي كباحث، وكأن الحياة نفسها تلقي لي بإشارة، تنبض بإمكانيات لا تحصى.

اتسعت أسارير وجهي، وامتلأت عيناي ببريق الحماسة. لم أحتج إلى وقت طويل للتفكير، كأن الحقائب كانت جاهزة تنتظر هذه الإشارة منذ أمد بعيد، وكأن روحي كانت قد انطلقت نحو تلك المدينة الساحرة؛ نانبينغ في مقاطعة فوجيان، قبل أن تخطو قدماي إليها. بيد ثابتة وقلب يخفق شغفا، حزمت أمتعتي وأعددت عدتي، مستعدا لمواجهة كل ما سيأتي، حاملا في قلبي شغف الباحث، وفي عيني دهشة المستكشف، وفي روحي توق لمعرفة أعمق بحضارة تتحدث بلغة الزمان والمكان.

عند وصولي للمدينة وإذ بي وأنا كأنني تحولت إلى أسير للبقاع الخضراء التي تمتد وديان الشاي فيها كأنها قصائد نُسجت بألوان الزمرد، تتجلى عظمة الطبيعة في بهائها وسحرها الأبدي. هناك، حيث تنحني الأرض برفق لتفسح المجال لهذه الشجيرات المرهفة، تتراقص أوراق الشاي تحت أشعة الشمس، كأنها جوقة من الجنيات الهائمة على وجه الطبيعة، عازفة موسيقاها السرمدية بهدوء وعذوبة.

وصلت بعدها إلى مكان سكني، منهكا بعض الشيء من طول الرحلة، لكن روحي كانت متحفزة كأنها في مغامرة لا تنتهي. ألقيت بنظرة عبر النافذة، فإذا بي أرى أمامي مناظر خلابة لم أكن قد رأيتها إلا في الصور، وكأن المدينة تحتفي بقدومي، وتكشف لي شيئا من جمالها الدفين. كان ثمة بريق غامض يغمر كل شيء، المباني القديمة تتناغم مع الشوارع النابضة بالحياة، وأصوات المدينة تتسلل بهدوء إلى مسامعي، وكأنها قصيدة تروى على إيقاع خافت.

وما كان أجمل من الخبر السار، هو أن الوقت كان إلى جانبي قبل بدء المؤتمر؛ فكنت أملك فرصة ذهبية لاكتشاف المدينة واستكشاف زواياها الخفية. في أول يوم لي، قررنا التوجه إلى جبل الشاي، ذاك الجبل الذي لطالما سمعت عنه في الحكايات، ولكن رؤيته بعيني كانت شيئا مختلفا تماما، أشبه بحلم يترجم إلى واقع ملموس.

وفي صباح مشبع بالندى، تتلامع وريقات الشاي كأنها حبات من الجواهر المخفية، تشع بنور خافت يعكس هدوء الوادي وسكينته. فتتكون صورة مذهلة حيث تتداخل الألوان وتتراقص الأنوار، كأنما الأرض قد خلعت على نفسها رداء بديعا من نقاء الربيع، يشبه روحا نقية تمشي في الأفق البعيد، فكل واد منها يحمل قصصا لم تحك بعد، مخبأة بين ثنايا الحقول، تنتظر عاشقا للتأمل، وقلوبا تتسع لالتقاط سحرها الكامن. كأن هذه الوديان هي سفينة تحمل كل معاني البساطة والتعقيد في آن واحد؛ فهي بسيطة في منظرها، معقدة فيما تثيره من شعور، إذ تمنح الناظر تجربة أشبه برحلة إلى أعماق الروح، حيث لا صوت سوى نداء الطبيعة الخافت.

وحينما أخذنا الطريق عبر ممرات تحفها أشجار الشاي من الجانبين، تتمايل بهدوء مع نسائم الجبل، وكأنها ترحب بنا بلغة صامتة. وعندما وصلنا إلى القمة، انكشفت لي مشاهد تأسر الروح وتنعش القلب. بدت مزارع الشاي كأنها بساط أخضر يمتد على مد البصر، تشكل في تدرجاتها لوحة من الجمال الطبيعي، تتناغم مع ظلال الشمس وتلتقط أنفاس الناظر بروعته.

وفي المساء، حين يحل الهدوء وتنسج الظلال على سطح الأرض، تغفو وديان الشاي كطفل في حضن أمه، بينما يحرسها القمر بنوره الفضي، كأب ساهر يحمي جواهره. وعندما يرتسم عليها وشاح الليل الداكن، تشعر أن الأرض قد تحولت إلى حلم بديع، حيث كل شيء ينبض بروح خفية، تدفعنا نحو تأمل عظمة الطبيعة وعذوبتها.

هكذا تبقى وديان الشاي الخلابة، رمزا للحياة في كل صورها وألوانها، وجهة للناظرين وعزاء لقلوب العابرين، تمنحهم لمحة من الجمال السرمدي الذي لا يذبل، وتجعلهم يعودون وقد ملؤوا أرواحهم بالسلام وروح الطبيعة النقية التي لم تفسدها يد الإنسان، فهناك، بين تلال الشاي وعطر الطبيعة، شعرت بعلاقة غامضة تنسج بيني وبين هذا المكان، كأنما يحمل في هدير رياحه وغموض زواياه أسرارا قديمة تنتظر من يقرأها.

وكان اليوم التالي هو اليوم الموعود، حيث حضور الدورة الثانية من مؤتمر علماء الصينيات العالمي، والتي كانت تحت عنوان "استقراء الحضارة الصينية، تضافر من أجل تعزيز التحديث العالمي"، والتي كانت تجربة فريدة تخلدت في ذاكرتي، حيث حملني هذا المؤتمر إلى عوالم مدهشة من المعرفة والتنوير. وانعقد المؤتمر بحضور نخبة من علماء الصينيات وأكاديمييها المرموقين من شتى بقاع الأرض، وقد كان ساحة خصبة للتبادل الفكري والمعرفي، مزدانة بحوارات غنية تألقت فيها الرؤى والأفكار العميقة حول أصول الثقافة الصينية ومظاهر تطورها، وحول كيفية توسيع دائرة علماء الصينيات وتقوية أدوارهم في نشر العلوم الصينية، وعن تأثير إسهاماتهم الماضية، وعن خططهم وتطلعاتهم المستقبلية، وكيف يمكن أن يساعدوا في بناء جسور للتبادلات الأكاديمية، والأنشطة الثقافية، والتعاون الاقتصادي والتجاري والتبادلات الاجتماعية وما إلى ذلك، وكيف يمكنهم توريث خبراتهم إلى الجيل الجديد من الشباب الطامح في استكشاف واستقراء المزيد من العلوم الصينية، وكيف تلعب المؤسسات التعليمية الصينية دورا مهما في هذا الصدد، وكيف يساعد هذا المؤتمر في تعزيز مبادرة "الحزام والطريق" التي اقترحها الرئيس شي جين بينغ، والتي كان من ثمارها تحقيق الصين تقدما كبيرا في تعزيز التعاون المتنوع مع الدول الأخرى حول العالم، حيث التعاون من أجل تحديث العالم يتطلب الحوار والتفاهم المتبادل بين الدول، ودمج جوهر الحضارات المختلفة لتحقيق التقدم المشترك. وفهم العمق الحضاري للصين يساعدنا في رسم مسار حديث مشترك، يسهم في إثراء التنمية العالمية ويضيف لها الحكمة والقوة.

وقد أتيحت لي الفرصة لمقابلة عدد من الشخصيات اللامعة، ممن أثروا الساحة البحثية، وفتحوا آفاقا جديدة لفهم التراث الحضاري الصيني وإسهاماته في مجالات متعددة، من الفلسفة إلى الفنون والعلوم. لم تقتصر هذه اللقاءات على الاستماع، بل أفسحت المجال لعقد النقاشات والتفاعلات وإجراء اللقاءات الصحفية المجدية، التي أضفت على التجربة طابعا حيا من التواصل المعرفي البنّاء.

وهكذا عدتُ من ذلك المؤتمر محملا بفيضٍ من المعرفة وذكريات تلتمع في أعماقي كنجوم أضاءت دربي في لحظات التأمل والإلهام. تجارب ألهمتني ورافقتني، وصور عالقة بذاكرتي من حقول الشاي التي امتدت أمامي كلوحة حية تروي قصص الأرض وسحرها. كانت هذه الرحلة إضافة جوهرية لمسيرتي البحثية والأكاديمية؛ فقد جمعتني بعوالم تنبض بأصالة الماضي وهمسات المستقبل، وعرفتني عن كثب على مكنونات الحضارة الصينية، التي تتوهج بميراث عريق يعانق الحداثة. لقد كانت بحق، منارة لكل من يطمع في فهم أعمق وأشمل لثراء هذه الحضارة؛ رحلة أضاءت طريقي وأسهمت في تشكيل رؤيتي، تاركة أثرا خالدا في روحي وذاكرتي.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4