كلنا شرق < الرئيسية

الرؤية الفلسفية للقيم الأخلاقية الكونفوشية والإسلامية وأثرها على الواقع المعاصر

: مشاركة
2025-09-15 12:07:00 الصين اليوم:Source د. الصاوي الصاوي أحمد:Author

بالرغم من أهمية القيم الأخلاقية في بناء وتأسيس المجتمعات، سواء على مستوى الأسرة أو الشعوب، فإن الواقع المعيش في عصرنا الحاضر يفتقد فيه العالم للرؤية الفلسفية للقيم الأخلاقية التي يجب أن تكون عليها الشعوب. لذا، ساد العالم- كما نشاهد- الانحلال والانحطاط والظلم والفساد على جميع المستويات والأنظمة؛ سواء على مستوى الأسرة والمجتمع أو الشعوب، وأصبحت الفضيلة في عالمنا المعاصر رذيلة، والرذيلة فضيلة، وسيطرت القوة العنصرية على شؤون القوى الضعيفة.

ونظرا لأن القيم الأخلاقية النبيلة يجب أن تكون نابعة من رؤية فلسفية ودينية، كان للأديان السماوية والفلاسفة دور مهم في ترسيخ القيم حسب ظروف كل مجتمع وكل عصر، مثلما كان الحال لدى فيلسوف الصين العظيم كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام الذين نبعت رؤيتهم الفلسفية الأخلاقية من طبيعة وخصائص وعقائد المجتمع.

وترجع أهمية الرؤى الفلسفية الأخلاقية الكونفوشية والإسلامية، إلى معالجة الوضع الذي كان سائدا في عصورهم من ظلم وانحلال وانحطاط، فقد ساد الفساد والظلم عصر الفيسلوف الصيني كونفوشيوس، الذي عاش من سنة 551 إلى سنة 479 ق.م، بسبب غياب القيم الأخلاقية، والتي عانى منها الشعب الصيني وكونفوشيوس نفسه، مما جعله يهب حياته كلها للتصدي لهذا الانحلال، وقام بترسيخ القيم الأخلاقية النبيلة والعادلة من خلال وضع رؤيته الفلسفية للقيم الأخلاقية التي جعلت من الصين دولة واحدة مترابطة تلتزم بالمعايير الأخلاقية والإنسانية على مستوى الفرد والجماعة.

كما كان للفساد والانحطاط سائدا في العصر الجاهلي قبل الإسلام، ما قبل عام 610م، وفي بعض العصور الإسلامية، بسبب غياب القيم الأخلاقية الإسلامية، مما دعا فلاسفة الإسلام من أمثال الكندي والفارابي ومسكويه وغيرهم للتصدي لهذا الفساد والظلم برؤاهم الفلسفية للقيم التي يجب أن تكون عليها الشعوب.

وقد أدى غياب الرؤية الفلسفية للقيم الأخلاقية في عصرنا الحاضر إلى الوضع المؤلم لغياب العدالة وانتشار الظلم والفساد وغياب الفضيلة، على المستوى المحلى والعالمي كما نشاهده في الواقع المعيش. وللإسهام في عودة القيم الأخلاقية الواجبة سنعرض ما يلي:

القيم الأخلاقية المعاصرة ومدى الحاجة إلى الرؤى الفلسفية الكونفوشية والإسلامية

تسود عالمنا المعاصر العديد من أوجه الانحلال والانحطاط الأخلاقي والقيمي على جميع المستويات والأنظمة، سواء على مستوى الأسرة من عدم احترام الابن لأبيه والأخ لأخيه، والصغير للكبير؛ أو بين المجتمعات من صراعات واقتتال بين أبناء الشعب الواحد وبين الشعوب وسيطرة فئة على أخرى دون وجه حق داخل الدولة الواحدة. ومعظم هذه الصراعات خارجة على القيم الأخلاقية، مما أدى إلى انتشار الحروب بكل أنواعها وعم الفساد، وأصبح السائد هو استغلال الشعوب القوية للشعوب الضعيفة ونهب خيراتها، كما هو ماثل الآن للعيان، وبالأخص من المؤسسات التي أقامها أصحاب المعسكرات العنصرية الغربية لخدمة مصالحهم، وأصبح الظلم هو السائد فى معظم الدول؛ كما يحدث الآن من ظلم بيّن من دول الغرب التي تحتل فكريا وثقافيا وأخلاقيا وميدانيا معظم شعوب الشرق، والتي خلقت مأساة إنسانية شملت معظم شعوب العالم، كما نرى توجهها الاقتصادي الذي يعمد إلى كسب المال والثراء على حساب استغلال الفقراء والضعفاء.

القيم الأخلاقية السائدة في عصر كونفوشيوس وما قبل الإسلام

إذا نظرنا للوضع الأخلاقي الذي كان سائدا في عصر كونفوشيوس وما قبل الإسلام، نجد أنه كان يسوده الانحلال والانحطاط والظلم بسبب غياب القيم الأخلاقية والتربوية التي حل محلها الإيمان بالخرفات وممارسة الشعوذة. وقد ساد عصر كونفوشيوس اضمحلال القيم التربوية والأخلاقية وساد الفساد بين المجتمعات والدول. وعندما عاش كونفوشيوس في فترة أسرة تشو شرقية (770- 256 ق.م)، رأى أن مشكلات الشعب تنبع من السلطة الحاكمة التي تمارس مبادئ غير أخلاقية لصالح الحكام فقط، ومن هنا ساد التفكك السياسي والاجتماعي والتردي الواسع للأخلاق، مما جعله يهب حياته كلها للتصدي لهذه الظواهر، والعمل على غرس وترسيخ القيم التربوية والأخلاقية النبيلة والعادلة، التي جعلت من الصين دولة واحدة مترابطة موحدة ذات حضارة، تلتزم بكل المعايير الأخلاقية والإنسانية على مستوى الفرد والجماعة.

في العالم العربي، كانت القيم السائدة قبل مجئ الإسلام، تتصف بالعديد من القيم القبلية والاجتماعية، مثل العصبية القبلية والأخذ بالثأر، وتعدد الطبقات الاجتماعية مثل السادة والعبيد، كما كان للمجتمع العربي قبل الإسلام عقائد دينية مختلفة، مثل عبادة الأصنام والأوثان، وكان لكل قبيلة أصنامها وآلهتها الخاصة. لهذا كان لا بد من ترسيخ القيم الأخلاقية الكونفوشية والإسلامية لإصلاح الواقع المعيش.

خلاصة القول، إن عصر كونفوشيوس وعصر ما قبل الإسلام سادهما الانحلال الأخلاقي وتدهور الحالة الاجتماعية لمعظم أفراد الشعب، وتدهور الحالة السياسية بسبب أنظمة الحكم والقيم السائدة فى ذاك الوقت. وهذا دعا كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام لاتخاذ موقف لوضع رؤيتهم الفلسفية لمعالجة القيم الأخلاقية التي وصل إليها الشعب.

موقف كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام من القيم السائدة

السؤال: ما موقف كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام من وضع القيم الأخلاقية في عصورهم؟

والإجابة هنا أن كونفوشيوس، الذي ولد في أسرة نبيلة يرجع أصلها إلى الإمبراطور هوانغ دى، قد عانى فى كل مراحل حياته معاناة لا تضاهيها معاناة. شغل كونفوشيوس عدة مناصب صغيرة في شبابه، مثل "ويلي" (إدارة المستودعات) و"تشنغتيان" (إدارة المراعي)، وكان يؤدي كل مهمة بانضباط وكفاءة. بفضل قدراته الاستثنائية ومعرفته العميقة، حصل على ترقية سريعة. وعندما بلغ الحادية والخمسين من عمره، عيِن كحاكم لمحافظة تشونغدو لمملكة لو، حيث حقق إنجازات سياسية بارزة. لاحقا، ترقى وأصبح وزيرا لإدارة مشروعات البناء والتشييد (سيكونغ) ثم رئيسا للوزراء بالوكالة، حيث تولى مسؤولية الشؤون الدبلوماسية. وبالرغم من هذه المناصب والمكانة، فإنه كان غير راض لأن المناخ الاجتماعي والسياسي والأخلاقي السائد كان يتعارض مع فلسفته التي كان يتمناها للشعب الصيني. لهذا، اتجه إلى إصلاح حال المجتمع من خلال رؤيته الفلسفية في بناء المواطن الصيني، وبالتالي بناء الحضارة الصينية والتي شهد لها العالم.

وجد كونفشيوس أن مشكلات الشعب الصيني تنبع من السلطة الحاكمة التي تمارس مبدأ غير أخلاقي لتحقيق مصلحة الحاكم. لهذا، دعا إلى الإصلاحات الاجتماعية التي تجعل الحكومة تدار لمصلحة الشعب. وقد قام بتقييم شامل لكل مناحي الحياة في عصره وما سبقه من عصور حضارية، لإبراز الإيجابيات للأخذ بها فى بناء المجتمع وتفعيلها، وأيضا إبراز السلبيات أو نقاط الضعف لمعالجتها. وقد نجح فى معالجة الكثير من نقاط الضعف التي سيطرت على المجتمع الصيني فى عصره وما بعد عصره من خلال تطبيق أرائه، ونجح في وضع رؤيته الفلسفية لإصلاح المجتمع الصيني.

وعن القيم الأخلاقية التي كانت سائدة في العالم العربي قبل الإسلام وأوجه الاتفاق والاختلاف بينها وبين عصر كونفوشيوس، فإن القيم السائدة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام تختلف عن القيم التي أتى بها الإسلام. كانت القيم والعلاقات السائدة تحكمها بعض العادات والتقاليد، مثل العصبية القبلية والأخذ بالثأر وعبادة الأصنام والأوثان، كما كان لكل قبيلة أصنامها الخاصة وكان الوضع الاجتماعي للنساء في المجتمع الجاهلي متدنيا، مقارنة بالرجال. ولهذا جاء الإسلام لتوحيد الألوهية ورفض عبادة الأصنام والأوثان والحث على الالتزام بالقيم الأخلاقية، مثل الصدق والأمانة والعدل والرحمة وحقوق الإنسان، خاصة للنساء والأطفال والضعفاء. ودعا الإسلام إلى العدالة الاجتماعية والوحدة الإسلامية وتجاوز العصبية القبلية والانتماءات الضيقة. ومن هنا كان التحول الثقافي في نشر قيم التوحيد والعدالة في مقابل العصبية القبلية. ولهذا، ساهمت القيم الإسلامية في بناء حضارة إسلامية قائمة على العلم والعدل والرحمة. وقام فلاسفة الإسلام بدورهم في وضع رؤى فلسفية لتحقيق القيم الأخلاقية التي وضعها الإسلام.

السمات المميزة لفلسفة القيم الأخلاقية الكونفوشية والإسلامية

تميزت القيم الأخلاقية الكونفوشية والإسلامية بالعديد من السمات التي تميزها عن الأخلاق التي سبقتها. وكان للمبادئ الأخلاقية التي وضعها كونفوشيوس الدور الكبير في تماسك الشعب الصيني، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. ومن أهم السمات التي تميز القيم الكونفوشية والتي تتفق إلى حد كبير مع القيم الإسلامية:

(أ‌) إنسانية الأخلاق، والتي تقوم على الفطرة الإنسانية على غير ما دعت إليه الفلسفات الغربية؛

(ب‌) تطابق الأسماء مع مسمياتها فى الأفعال والأقوال. دعا كونفوشيوس إلى العناية والاهتمام بأسماء الأبناء؛ بحيث تتطابق مع مسمياتها؛

(ج) خيرية الطبيعة الإنسانية، فالناس عند كونفوشيوس وعند فلاسفة الإسلام يولدون خيرين بطبيعتهم، وهذا يتفق مع ما جاء به الإسلام فى حديث الرسول محمد: "كل مولود يولد على الفطرة". فالإنسان الخير هو الإنسان الفاضل ذو الصفات النبيلة التي تؤهله لأن يكون إنسانا كاملا؛

(د) الالتزام بالفضيلة. الفضيلة عند كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام ضرورية في حياة الشعوب، وغاية الفضيلة عندهم هي الكمال الإنساني والسعادة لبني البشر. وتتمحور فلسفة كونفوشيوس حول خمس فضائل رئيسية: الرحمة (رن)، وتعني الرأفة بالآخرين والعطف والإحسان؛ العدالة (يي)، وتتمثل في السلوك المستقيم والتصرف وفق ما هو أخلاقي وصحيح؛ الأدب (لي)، ويشمل احترام التقاليد وإجلال الكبار والمحافظة على النظام الاجتماعي؛ الحكمة (تشي)، وتتمثل في القدرة على التعلم والتفكير النقدي وإصدار الأحكام؛ الصدق (شين)، وتعني الوفاء بالوعود والثقة في التعامل والنزاهة. وتتفق الرؤية الإسلامية مع كونفوشيوس فى هذه السمات.

كما اهتم كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام اهتماما كبيرا ببناء الأسرة والمجتمع وأنظمة الحكم، كأساس للرؤية الفلسفية للقيم الأخلاقية في جميع مجالات الحياة لأي شعب أو مجتمع. كما أكدوا على ضرورة تضامن المجتمع بحيث يكون أسرة واحدة تقوم على أساس احترام الآخر. كما دعوا إلى ضرورة القدوة الصالحة لدى الحكام، حتى يحذو أفراد الشعب حذوهم، فالقادة والحكام يؤثرون فى الناس بأخلاقهم أكثر مما يؤثرون بقوانينهم أو بقوتهم. وقد ربط كونفوشيوس وفلاسفة الإسلام بين الأسرة والمجتمع ونظام الحكم، وبين الأخلاق، فليس هناك أسرة ولا مجتمع ولا نظام حاكم ناجح إلا بالالتزام بالأخلاق النبيلة القائمة على ما يجب أن يكون.

يتبين لنا مما سبق أن القيم الأخلاقية الكونفوشية لا تختلف كثيرا عن القيم الدينية الإسلامية، فإذا كانت الأخلاق ضرورة مجتمعية فى الكونفوشية فهى ضرورية أيضا فى الإسلام الذي دعا إلى السمو بالنفس الإنسانية عن طريق حياة اجتماعية مؤسسة على الأخلاق الكريمة التي أساسها الرحمة والبر والإخاء والمودة والتعاون والوفاء والصدق والإحسان والثبات والتواضع وعمل الخير والأمر بالمعروف.

القيم الأخلاقية الكونفوشية ودورها في انفتاح الصين على العالم

استفادت الصين من الرؤية الكونفوشية للقيم الأخلاقية، واستطاعت توظيف مبادئها فى نشر ثقافة السلام بين الشعوب وتوثيق العلاقة بين الشعب الصيني والشعوب الأخرى، من خلال بناء وإعداد المواطن الصيني للتعايش العملي والسلمي داخل وخارج المجتمع الصيني. ومن هنا أصبح المواطن الصيني المعاصر لديه القدرة على الانفتاح على العالم، بعد أن كان منغلقا على نفسه فى القرون السابقة. ونشاهد ذلك واقعيا بوجود المواطن الصيني في كل أنحاء العالم، إما للتعلم أو التعليم أو للعمل التجاري أو الصناعي أو للترويج للصين سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وفي ظل مبادرة "الحزام والطريق"، نستطيع القول إن الصين في القريب العاجل ستكسب ود معظم شعوب العالم بحسن المعاملة والأمانة في التعاون استنادا إلى المصالح المشتركة والاستفادة المتبادلة. وقد ظهر هذا جليا فى منطقة الشرق الأوسط، فالصين أصبح لها وجود فى جميع مناحي الحياة العربية، مستخدمة في ذلك نشر ثقافة التعاون والمصالح المشتركة مع توفير الأمن والأمان للجميع. وهنا يجب على دول العالم فهم حقيقة الثقافة الصينية والإسلامية والتعامل مع الآخر، من منطلق الاستفادة المتبادلة بين جميع الأطراف.

نخلص من هذا إلى أن الأمم والشعوب تبني حضارتها بالقيم الأخلاقية. إذا غابت القيم الأخلاقية عن أي شعب انهارت حضارته، وأكبر دليل على ذلك عودة نهضة الصين المعاصرة، بعد إعادة التمسك بالقيم الكونفوشية.

لهذا، نوصي بأنه يجب على المجتمعات العربية والإسلامية الأخذ بالمبادئ الأخلاقية الإسلامية وبتجارب الصين والتي تتفق مع قيمنا الإسلامية، من خلال معرفة الذات والآخر- كما فعلت الصين- لمعرفة نقاط القوة لتطويرها ونقاط الضعف لتقويتها، وتعزيز التربية الأخلاقية في الأسرة والمدرسة، وتعزيز الوعي بالقيم الإيجابية، والتعاون والتوافق بين المؤسسات والشعوب.

--

د. الصاوي الصاوي أحمد، مؤسس الصالون الثقافي "الصين في عيون المصريين"، منسق العلاقات الصينية بكلية الآداب في جامعة بنها بمصر.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4