أخبار < الرئيسية

حقبة جديدة لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية مع دول الجنوب العالمي

فلسفة الحياد ومجتمع المستقبل المشترك للبشرية

: مشاركة
2024-09-12 12:52:00 الصين اليوم:Source د. هند سلطان:Author

لقد وضع الرئيس شي جين بينغ منذ قدومه إلى السلطة الخطوط العريضة لقيادة التقدم القوي لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية، والتي تتركز على مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وفلسفة الحياد لتحقيق التعاون الشامل والعادل مع جميع الأطراف، وتعزيز إنشاء نمط من العلاقات يتميز بالتعايش السلمي والاستقرار الشامل والتنمية المتوازنة. ويصاف هذا العام الذكرى السنوية الحادية عشرة لاقتراح الرئيس شي جين بينغ بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية. ويُعد تعاون الجنوب العالمي جزء لا يتجزأ من دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية. فقد أقامت الصين التي تعتبر عضوا نموذجيا في الجنوب العالمي، شراكات إستراتيجية وشراكات إستراتيجية شاملة مع دول الجنوب العالمي. ودخلت العلاقات بين الصين ودول الجنوب العالمي حقبة جديدة تجمع بين مزيج من الإطار الاقتصادي القائم على المنفعة المشتركة والإطار السياسي القائم على إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي نحو مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وفلسفة الحياد لبناء مجتمع دولي يقوم على السلام العادل والشامل والمستدام.

وبالتالي نجد أن الخطوط العريضة لهذه الدبلوماسية التي يسعي لها شي جين بينغ هي التركيز على هوية الصين كشريك طبيعي مع دول الجنوب العالمي، ملتزمة بمفهوم مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وفلسفة الحياد. يناقش هذه المقال تطور مفهوم "الجنوب العالمي"، وتحليل تاريخ تطور الدبلوماسية الصينية من منطلق هذا المفهوم مع دول الجنوب العالمي، وأخيرا، سمات دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية في الحقبة الجديدة. لفهم كيف تسعى هذه الدبلوماسية لتحقيق البناء المشترك للحوكمة العالمية من خلال دورها كحارس للأمن العالمي وباني للتنمية العالمية القائمة على التعاون المفتوح والمشاركة المربحة للجانبين.

أولا، تطور مفهوم "الجنوب العالمي" في النظام العالمي نحو الحقبة الجديدة

منذ إنشاء نظام وستفاليا، تم الاعتماد على مخرجات مؤتمر فيينا ومعاهدة فرساي ومؤتمر يالطا وقواعد الحرب الباردة العلاقات بين القوى الكبرى، كأساس لتحديد النظام العالمي، وحتى البناء النظري للعلاقات الدولية، الذي استخدم العلاقات بين القوى الكبرى كإطار أساسي. ومع ذلك، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلت دول الجنوب، وخاصة دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية التي حققت استقلالها الوطني عن القوى التقليدية، تعمل على تعزيز إنشاء نظام سياسي واقتصادي دولي جديد من خلال الجهود السياسية والاقتصادية هذا الاحتكار. ومنذ نهاية الحرب الباردة، واصلت الجهات الفاعلة غير الحكومية، وخاصة الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية، إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد معتمدة على موجة العولمة الاقتصادية. ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ثم وباء كوفيد- 19، ظهرت الأفكار المناهضة للعولمة وعادت القومية إلى الظهور، وقد أدى "الفصل والانفصال" بين الأحادية والحمائية وكراهية الأجانب إلى إعاقة الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية بشكل كبير لتشكيل نظام جديد. وعلى هذه الخلفية، أصبح الجنوب العالمي مؤثرا بشكل متزايد على الساحة الدولية بمساعدة عودة الاتجاهات القومية، وجذب المزيد من الاهتمام والمناقشات الساخنة من جميع مناحي الحياة.

وفي الواقع، أول من صاغ مصطلح "العالم الثالث" أو "دول الجنوب"، هو عالم الديموغرافيا الفرنسي ألفريد سوفي في مقاله عام 1952 تحت بعنوان "ثلاثة عوالم، كوكب واحد"، والذي كان يقصد به البلدان غير المنحازة وغير المتورطة مع أي من طرفي الحرب الباردة. ويعزي ذلك إلى أنه بعد الحرب العالمية الثانية، سعت الدول التي حصلت على الاستقلال السياسي إلى الحصول على موقف خاص بها في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. وبحلول الستينات، مع استقلال عدد كبير من البلدان المستعمرة، بدأ الناس يطلقون عليها اسم "الدول الجنوبية"، و"العالم الثالث"، وكلاهما يشيران بشكل جماعي إلى البلدان التي تم غزوها أو استعمارها من قبل الإمبرياليين في التاريخ وهي متخلفة نسبيا في التنمية.

وحتى بعد استقلال الدول المستعمرة وشبه المستعمرة عن النظام الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت دول الجنوب تنتقل من الفئة الاقتصادية إلى الفئة السياسية. وفي الإطار السياسي، تتم مقارنة الجنوب العالمي بالإمبراطوريات والقوى العظمى، وهو يعتمد على نظرية هوبز عن الدولة، والذي يرى العالم عبارة عن هيكل هرمي تقوده الإمبراطوريات والقوى المهيمنة والقوى العظمى في حالة من الفوضى فمن دون قيادة القوى الكبرى والقوى المهيمنة، لا يمكن تحقيق النظام الدولي. وحتى بالنسبة للمؤسسيين الذين يمثلهم روبرت كيوهين، فإن إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون من دون قيادة قوة مهيمنة ليس بالأمر الهين.

ومن خلال هذا النظام، فإن النظام الإمبراطوري في الدول الشمالية متحضر، في حين أن دول الجنوب في النظام الإمبراطوري غير متحضرة، وقد أدى تغير الإمبراطوريات وصعود وسقوط القوى العظمى إلى تغييرات في النظام العالمي وجهة النظر السائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين.

بينما كان الناشط السياسي اليساري الأمريكي كارل أوغلسبي أول من استخدم مصطلح الجنوب العالمي في العام 1969 في مقال له بالمجلة الليبرالية الكاثوليكية "كومونوييل". ومع ذلك، لم يجذب هذا المفهوم في البداية انتباه المجتمع الأكاديمي، وكان الناس أكثر ميلا لقبول مفاهيم مثل "العالم الثالث" و"الدول النامية". بالإضافة إلى ذلك، توقف الحوار بين الشمال والجنوب بعد مؤتمر كانكون في المكسيك عام 1981، وانحدرت الدراسات التي تتعلق بالعلاقات بين الشمال والجنوب في الأوساط الأكاديمية.

لقد فرضت دول الشمال العالمي قيودا على دول الجنوب العالمي من خلال قوتها العسكرية المتفوقة وقوتها الاقتصادية وأنظمتها وأيديولوجياتها، مما ساهم في تخلف دول الجنوب عن بلدان الشمال العالمي. ناهيك عن عدم المساواة الاجتماعية الموجودة في بلدان الجنوب والحكومات الفاسدة والصراعات العنيفة ناجمة أيضا عن السياسات الاستعمارية القديمة والجديدة لبلدان الشمال. وفي مواجهة هذا ظهرت حركات مقاومة وحركات اجتماعية مختلفة في بلدان الجنوب، بل وتشكلت جبهات موحدة في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، بدأ المؤتمر الآسيوي الأفريقي في الخمسينات، وحركة عدم الانحياز في الستينات، ومجموعة الـ"77" التي تشكلت في إطار الأمم المتحدة منذ السبعينات. ومع تطور التضامن والتعاون بين دول الجنوب، بدأ الجنوب العالمي في الظهور كفئة سياسية.

وبعد نهاية الحرب الباردة، كان يُنظر إلى النظام السياسي والاقتصادي العالمي على أنه نظام عالمي أحادي القطب تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أعادت العولمة الاقتصادية والديمقراطية السياسية التي روجت لها الولايات المتحدة الأمريكية تشكيل العالم بأسره من خلال التدخل العسكري وأسلحة الدمار الشامل/ والأسلحة التقليدية في تحقق الردع، وأيضا الدبلوماسية الاقتصادية الممزوجة بالإكراه والعقوبات والمساعدات الناتجة عن هيمنة الدولار الأمريكي وآليات السوق الانتقائية لقيادة العالم.

في إطار النظام السياسي والاقتصادي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، يعتبر الجنوب العالمي مفهوما سياسيا واقتصاديا مخالفا لإجماع واشنطن والليبرالية الجديدة، تلك الدول التي لديها خلافات سياسية واقتصادية مع الدول الغربية والمتخلفة هي ببساطة نتاج لوضع العلاقات بين الشمال والجنوب من منظور العولمة الاقتصادية، مع التركيز على العلاقات الجيوسياسية العالمية.

لذا، شكلت الاتجاهات المناهضة للعولمة والأزمة المالية العالمية وتغير المناخ العالمي ووباء كوفيد- 19 المشهد السياسي والاقتصادي العالمي بشكل عميق سلسلة من التغيرات العالمية الكبرى. ففي عام 2003، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مبادرة أطلق عليها اسم "بناء الجنوب العالمي"، والتي لعبت دورا مهما في لفت انتباه المجتمع الدولي إلى هذا المفهوم. وفي مواجهة الأزمة المالية العالمية، تقدمت آلية التعاون بين دول البريكس بما فيها الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وروسيا بشكل مطرد. وفي مواجهة تغير المناخ العالمي ووباء كوفيد- 19 العالمي، اتسعت الفجوة والاختلافات بين دول الجنوب والشمال بشكل متزايد، مما دفع الأنظار نحو "الجنوب العالمي" في المجتمع الأكاديمي، ولا سيما بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، حيث كانت البداية لحقبة جديد للجنوب العالمي الذي لم يختار بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والغرب كما تصورتها دول الشمال، ولم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من إقامة تحالف مناهض لروسيا مع معظم دول الجنوب. وقد أدى هذا إلى زيادة تصاعد المناقشات حول الجنوب العالمي في الدوائر الإستراتيجية والدوائر الأكاديمية في البلدان المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

وقد ساهمت الخطوط العريضة لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية بمفاهيمها الجديدة في تعزيز مفهوم الجنوب العالمي ولا سيما الدور الكبير الذي تلعبه مبادرة "الحزام والطريق" في ربط العالم بشبكات برية وبحرية لتعزيز التعاون التجاري والسياسي والثقافي في سياق "المنفعة المتبادلة"، وأيضا الدور الصيني الرائد والمسؤول في قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة وأيضا "دبلوماسية اللقاح الصيني" خلال اندلاع وباء كوفيد- 19، كل هذه الاسهامات لخطوط العريضة لدبلوماسية القوى الكبرى في تعزيز المؤتمرات الدولية لتعزيز الجنوب العالمي.

 ففي عام 2023، عقدت الهند قمة "مجموعة العشرين" في نيودلهي لمناقشة "صوت الجنوب العالمي"، وقد ذكرت "الجنوب العالمي" في التقرير الصادر عن مؤتمر ميونخ للأمن "الجنوب العالمي" عدة مرات متتالية، وعقدت اليابان قمة "الجنوب العالمي"، وخلال قمة مجموعة السبع في هيروشيما، تمت دعوة بعض "الدول الجنوبية" بشكل خاص للحضور وتم إدراج الجنوب العالمي في موضوعات القمة. فالمفاهيم التي أطلقتها دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية، قد دفعت دول الجنوب العالمي والتي تتمتع بنفوذ إستراتيجي يغطي 130 دولة، في تتكثف التفاعلات بين بلدان الجنوب، وأصبحت القوى الشمالية تتنافس أيضا على زعامة الجنوب العالمي. فليس التمييز بين الجنوب والشمال جغرافيا بل في الخطابين الفاصلين السياسي والاقتصادي. فمن المنظور السياسي تشمل بناء الحوكمة العالمية القائمة على مفاهيم العادلة والإنصاف، والإصرار على الاستقلال السياسي وقوى عدم الانحياز العالمية، وهي تلك القوى العالمية الملتزمة بالمشاركة في إصلاح وبناء نظام الحكم العالمي. وهي المفاهيم التي تعتبر الحجر الأساسي لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية التي تحدد العلاقات مع دول الجنوب العالمي بشكل أساسي من خلال منظور وضع الجنوب في المجتمع العالمي ومجتمع المستقبل المشترك للبشرية.

ثانيا، تاريخ تطور الدبلوماسية الصينية من منظور "مفهوم الجنوب" مع دول الجنوب العالمي

باعتبارها عضوا مؤسسا للأمم المتحدة ودولة نامية كبرى كما صنفها تقرير "بناء الجنوب العالمي" الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2004، على أنها دولة من "الجنوب العالمي"، ودولة كبرى تتمتع بنفوذ إستراتيجي عالمي، وسياسة خارجية مستقلة تقوم على سياسة عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية وتنتهج سياسة الشراكة وليس التحالف وتتبنى سياسة عدم الانحياز، كما أن هناك تاريخا مشتركا من النضالات التاريخية مع دول الجنوب العالمي، وقد أعطت الدروس التاريخية المستفادة والتجارب والإنجازات الناجحة التي حققتها الصين بقيادة الحزب الشيوعي في التغلب على الكثير من مشكلات التنمية التي واجهتها والتي أيضا هي مشكلات تنموية مشتركة مع دول الجنوب العالمي، ومساعي نقلها من خلال مبادرة "الحزام والطريق" مثل "مكافحة الفساد"، و"القضاء على الفقر" و"إنجازات المجال الصناعي والزراعي والتكنولوجي"، و"الإدارة والحوكمة" وغيرها، إلي دول الجنوب العالمي. كما أن دبلوماسيتها تحمل وجهات نظر ومطالب مماثلة بشأن النظام الدولي الحالي والحوكمة العالمية.

ومن هنا يمكن القول إن دول الجنوب العالمي والصين شركاء طبيعيون، فهناك تشارك في التجارب التاريخية ضد الإمبريالية وتواجه الصين ودول الجنوب العالمي مشكلات وتحديات في قضايا التنمية المستدامة، وتتقاسم تطلعات سياسية مشتركة لتعديل الحوكمة العالمية للنظام الحالي التي ينظر إليها على أنها غير عادلة وغير معقولة، ويأمل كلاهما في الفوز بمكان في إصلاح نظام الحوكمة العالمية.

فالصين لا تسعى لإقامة تحالفات مع دول الجنوب بقدر مساعيها على تشجع على إقامة نوع جديد من العلاقات الدولية غير المنحازة وغير التصادمية على أساس المبادئ الخمسة للتعايش السلمي. إن الشراكة التنموية العالمية القائمة على المساواة والانفتاح والتعاون بين الدول هي السمات المميزة للشراكة التنموية بين الصين والجنوب العالمي على أساس هويتها كشريك طبيعي.

فقد قامت الصين، باعتبارها عضوا نموذجيا في الجنوب العالمي، بتعديل أهدافها الأساسية وتركيز العلاقات والأولويات بشكل مستمر في علاقاتها المتبادلة مع دول الجنوب العالمي في فترات تاريخية مختلفة من خلال الجمع بين التحولات في النظم العالمي والإستراتيجية الوطنية. فمنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، شهدت علاقات الصين مع دول الجنوب العالمي عملية تنمية مشتركة من الإطار السياسي المتعلق بالنضال المشترك إلى الإطار الاقتصادي المتعلق بالتنمية المشتركة.

فمن منظور الإطار السياسي، منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية حتى نهاية السبعينات، وفي مواجهة نمط الحرب الباردة الثنائية القطبية المتمثلة في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، كان الإطار الأساسي لإستراتيجية الصين الخارجية هو التمسك بالصراع الطبقي باعتباره الحجر الرئيسي. وهذا ما أكد عليه الرئيس ماو في الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الثامنة للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر 1957، حينما ركز على التناقضات بين البروليتاريا والبرجوازية، وبين الطريق الاشتراكي والطريق الرأسمالي، والتي لا تزال يعاني منها المجتمع الدولي حتى يومنا هذا.

فالدبلوماسية الصينية التي تجمع بين الهيكل الدولي والإستراتيجية الوطنية، أكدت على اعتبار الصراع الطبقي الإطار السياسي الأساسي لها، وهذا الإطار السياسي يعارض الاستعمار والإمبريالية والهيمنة، ويؤكد على احترام الحقوق والمصالح المشروعة للاستقلال الوطني والسيادة والسلامة الإقليمية والتنمية المستقلة، مع النضال المشترك مع دول الجنوب العالمي. وهذا النضال انعكس في طرح ماو تسي تونغ الأطروحة الإستراتيجية الشهيرة "العوالم الثلاثة" عندما التقى بالرئيس الزامبي كاوندا، والتي اعتبرت الوحدة والتعاون بين الصين ودول الجنوب جزءا مهما من الجبهة المتحدة للثورية العالمية.

كما أوضح ماو تسي تونغ المؤشرات الإستراتيجية والمؤشرات الاقتصادية التي تميز العوالم الثلاثة وفقا لمؤشران هما عدد القنابل الذرية ومستوى الثروة. فوقعت "الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في تصنيف العالم الأول، والعالم الثاني، أوروبا، اليابان، أستراليا وكندا، وباقي دول العالم الثالث.

ووفقا للفكر الإستراتيجي "العوالم الثلاثة"، تعتبر الصين الدول النامية بمثابة موطئ قدم أساسي لسياستها الخارجية، وتعلق أهمية كبيرة على الوحدة والتعاون مع دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي إستراتيجية الثورة العالمية، يتم تضمين العلاقة بين الصين ودول الجنوب في الإطار الإستراتيجي للنضال المشترك ضد الإمبريالية والاستعمار والهيمنة الذي بدأه المؤتمر الآسيوي الأفريقي، إلى النضال ضد الإمبريالية الاشتراكية السوفيتية، إلى دعم الصين لـ"حركة عدم الانحياز"، ونضال "مجموعة الـ"77" من أجل تعزيز نظام سياسي واقتصادي دولي جديد. وعلى الرغم من أن أهداف النضال قد تغيرت، إلا أن الإطار الإستراتيجي لنضال الصين المشترك مع دول الجنوب لم يتغير بشكل أساسي. إن أهم أدوات نضال الصين المشترك مع دول الجنوب هي النضال السياسي والمساعدات الخارجية.

ومن المنظور الاقتصادي، كون الدبلوماسية الصينية تتركز على الجمع بين الهيكل الدولي أو التغيرات في المجتمع الدولي والإستراتيجية الوطنية، أطلق الحزب الشيوعي بقيادة دنغ شياو بينغ "الإصلاح والانفتاح" التي ألزمت الإطار الأساسي لإستراتيجية الصين الخارجية للتركيز بشكل رئيسي على الالتزام بالبناء الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، منذ الإصلاح والانفتاح، ومع تحول مركز عمل الحزب والدولة من الصراع الطبقي إلى البناء الاقتصادي وتحول التركيز الإستراتيجي للدبلوماسية الصينية أيضا إلى تعزيز التحديث، حيث كان المجتمع الدولي يشهد اضطرابات نتيجة تداعيات حرب فيتنام و"فضيحة وترغيت" وأزمة النفط بشكل كبير وغيرها من الأحداث التي جعلت مفهوم السلام والتنمية الموضوعين الرئيسيين في العالم. وعلى الرغم من أن الصين لا تزال تصر على معارضة الهيمنة وحماية السلام العالمي في علاقاتها الخارجية، إلا أن التركيز الإستراتيجي لجميع أعمالها ركز بشكل واضح على تعزيز التحديث وتحقيق التنمية الدولية المشتركة، وقد أصبح الإطار الاقتصادي الأساسي لدبلوماسية الصين. ففي مارس 1985، أشار دنغ شياو بينغ إلى أن "المشكلات الكبرى الحقيقية في العالم الآن هي القضايا الإستراتيجية التي تتعلق بالسلام والتنمية. فقضية السلام هي العلاقة بين الشرق والغرب، وقضية التنمية هي العلاقة بين الشمال والجنوب". وخلاصة القول هي أن قضية الشمال والجنوب هي القضية الأساسية." ومن هذا المنظور الإستراتيجي، حيث أصبح السلام والتنمية قضيتين أساسيتين في العالم، فإن مكانة الدول النامية في الإستراتيجية الدبلوماسية الشاملة للصين ظلت في تقدم. لذا، كانت الدبلوماسية الصينية تلتزم بطرح دنغ شياو بينغ فكرة "عدم أخذ زمام المبادرة أبدا" كسياسة وطنية أساسية.

وفي هذا الإطار الاقتصادي، يتم تضمين فهم الحزب الشيوعي الصيني لدول الجنوب بشكل أساسي في الإطار الإستراتيجي للإصلاح والانفتاح، والذي يؤمن بأن الصين تنتمي دائما إلى العالم الثالث، ويعزز الحوار بين الشمال والجنوب، ويعزز التعاون بين الجنوب والجنوب، ويدفع علاقة تنمية اقتصادية مشتركة مع دول الجنوب العالمي، ومنطقها الأساسي هو تنفيذ تعاون اقتصادي مشترك قائم على المنفعة المتبادلة، ويتجاوز القيود الأيديولوجية، وتكوين شراكات على نطاق واسع، وتشكيل مفهوم جديد للالتزام بطريق التنمية السلمية واتباع إستراتيجية الانفتاح المتبادلة المنفعة والمربحة للجانبين بشكل متزايد.

ثالثا، سمات دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية في الحقبة الجديدة

إن عالمنا اليوم يمر بتغيرات كبرى لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمان، كما دخلت علاقات الصين مع الجنوب العالمي عصرا جديدا. وهذا الوضع الجديد الذي يتسم بالفوضى المتشابكة والأزمات المتراكبة دفع دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية بقيادة شي جين بينغ إلى استكشاف الطريقة الصحيحة التي يُمكن الصين من الانسجام مع الجنوب العالمي في الحقبة الجديدة. ومع صعود القوة الوطنية الشاملة للصين ونفوذها الدولي، تواجه علاقات الصين مع دول الجنوب العالمي تناقضات وتحديات معقدة في العصر الجديد، فهي لا تواجه فقط تحديات العلاقات الدولية التقليدية مثل المنافسة بين القوى العظمى والصراعات الإقليمية والمنافسة للقيادة في الجنوب العالمي، ولكنها تواجه أيضا تحديات عالمية جديدة مثل الأزمات، والجريمة العابرة للحدود الوطنية، وتغير المناخ، وصراعات الطاقة، والتحول الرقمي، فضلا عن التحديات الداخلية الناشئة عن الظروف الوطنية الأساسية الراسخة والتاريخ والثقافة، وتنوع مسارات التنمية في بلدان الجنوب العالمي.

إن كيفية التغلب على العديد من المشكلات والتحديات، وتعزيز هوية الصين كشريك طبيعي لدول الجنوب، وتعزيز الوحدة والتعاون في الجنوب العالمي، هي التي سعت الي تنفيذها الخطوط العريضة لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية بين الصين والجنوب العالمي في العصر الجديد.

فمنذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، وفي مواجهة الأوضاع الجديدة التي تتشابك وتلتهب فيها التغيرات العالمية الكبرى التي لم يسبق لها مثيل منذ قرن والإستراتيجية الشاملة للنهضة العظيمة للأمة الصينية، التزمت دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية ببناء نوع جديد من العلاقات الدولية وبناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية. وبتوجيه من مفهوم مجتمع المستقبل المشترك للبشرية الذي أطلقه الرئيس شي والذي هو أحد أسس الخطوط العريضة لهذه الدبلوماسية، اخترقت علاقات الصين مع دول الجنوب العالمي الإطار الدبلوماسي السابق القائم على القومية وأنشأت فلسفة محايدة توازن بين العولمة والقومية والتي تفضي إلى الوئام بين الدول.

 ويمكن تلخيص سمات دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية كما في الشكل (١) إلى مجتمع المستقبل مشترك للبشرية وفلسفة الحياد، ويتشابك الاثنان مع بعضهما البعض، والتي تحقق المصلحة الوطنية للصين ودول الجنوب العالي والمصلحة العالمية.

 

الشكل (١): العلاقة المتشابكة بين سمات دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية

 

فالمنطق الأساسي لفلسفة الحياد هو الالتزام بنظرة "الصين" للعالم على أساس مجتمع المستقبل المشترك للبشرية، وتعزيز منهجية "الانسجام والوئام" كجوهر للتعلم المتبادل بين الحضارات. وفي سياق هذا، تعارض الصين جميع أشكال الأحادية والحمائية والهيمنة وسياسات القوة، وتعارض تشكيل المعسكرات والتحالفات التي تستهدف بلدانا معينة. وتدعو إلى السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، وتعزز بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية. وفي الوقت نفسه، تعتبر القومية أساس تطور وازدهار علاقات الصين مع الجنوب العالمي، وهي "طريق السلام" بين الصين والجنوب العالمي الذي له مصالح عالمية واضحة. كما ان مفهوم مجتمع المستقبل المشترك للبشرية يعارض نظرية صراع الحضارات وكل أنواع النظريات "الاستثنائية" و"المعايير المزدوجة" التي نشهدها حاليا في الحرب على غزة والحرب الاوكرانية، ويدعو إلى نظرة حضارية جديدة تقوم على المساواة والتعلم المتبادل والحوار والتسامح. فهو يعزز التبادلات بين الحضارات التي تتجاوز الحواجز الحضارية، والتعلم المتبادل بين الحضارات الذي يتجاوز الصراعات الحضارية، والتعايش الحضاري الذي يتجاوز التفوق الحضاري. كما تعكس فلسفة الحياد لدبلوماسيتها التوازن بين المصلحة العالمية والمصالح الوطنية، وهي الطريقة الصحيحة لتتوافق الصين مع الجنوب العالمي في العصر الجديد.

وعند النظر إلى هذا التوازن بين المصلحة العالمية والمصالح الوطنية، نجد أن هذه الدبلوماسية تسعى إلى التنمية كأولوية أساسية في علاقاتها مع دول الجنوب، والتي تعتبر جزء لا يتجزأ من المصالح الوطنية لدول الجنوب العالمي وأيضا المصلحة العالمية التي تتعلق بالتنمية العالمية والعولمة وكيفية القضاء على فجوة التنمية وفجوة التحديث بين الشمال والجنوب. فتعزيز التحديث وبناء شراكات للتنمية العالمية يساهم في توطيد مصالح شركاء الجنوب العالمي والبناء المشترك لمجتمع التنمية العالمية. وهذا هو المهام الأساسية للدبلوماسية الصينية في الجنوب العالمي في العصر الجديد.

وقد أطلق شي جين بينغ مبادرة "الحزام والطريق" عالية الجودة ومبادرة التنمية العالمية، والتي ساهمت في تعزيز التعاون الفعال مع دول الجنوب العالمي من حيث رأس المال والتكنولوجيا والمواهب من خلال منصات التعاون الدولية والإقليمية والثنائية والمتعددة الأطراف. مع التركيز على تحسين بناء البنية التحتية ومستوى التنمية الاقتصادية في البلدان النامية، والعمل المشترك على تنمية متطلبات السوق الجديدة، وإطلاق زخم جديد للتنمية الدولية، وتوسيع مساحة التعاون بين الصين والجنوب العالمي.

 وأتوقع بأن دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية في المستقبل القريب ستواصل دعم مفاهيم التنمية الجديدة للابتكار والتنسيق والأخضر والانفتاح والمشاركة في إطار مبادرة التنمية العالمية ومبادرة "الحزام والطريق"، والعمل مع الجنوب العالمي لتعزيز التحديث المشترك. وعلى الجانب الأمني المتعلق بالمصالح الوطنية وأيضا المصلحة العالمية، نجد أنه على الرغم من حصول دول الجنوب العالمي على الاستقلال، فإنها لا تزال توجه تحديات وتهديدات تتعلق بالأمن التقليدي وغير التقليدي، بما في ذلك التحديات الأمنية التقليدية الناجمة عن المظالم التاريخية، والنزاعات الإقليمية، والصراعات الدينية والعرقية، فضلا عن الأمن الاقتصادي، وأمن سلاسل التوريد، والإرهاب، والأمن غير التقليدي، ويعد كيفية تعزيز أمن دول الجنوب العالمي وتعزيز الوحدة والتعاون بين دول الجنوب العالمي مطلبا ملحا لدول الجنوب العالمي.

إن تعزيز التعاون الأمني ​​العالمي، وبناء حاجز أمني قوي للشركاء الطبيعيين، والبناء المشترك لمجتمع أمني عالمي، هو محور تركيز دبلوماسية الصين مع الجنوب العالمي في العصر الجديد. وفي هذا الصدد، اقترحت الصين مبادرة أمنية عالمية، ومن خلال الممارسة النشطة لمفهوم أمني جديد مشترك وشامل وتعاوني ومستدام، تلتزم الصين باستكشاف الإدارة الشاملة للقضايا الإقليمية الساخنة في القضية النووية شبه الجزيرة الكورية، والملف النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية. كما لعبت دورا نشطا في القضايا الإقليمية الساخنة مثل عملية السلام في الشرق الأوسط مثل مصالحة بكين بين إيران والسعودية وأيضا اجتماع بكين الأخير بين الفصائل الفلسطينية المتنازعة لتوحيد الصف الفلسطيني.

وفي الوقت نفسه، تشارك الصين بنشاط في التعاون الأمني ​​في إطار المنظمات الدولية وآليات الأمن الإقليمية مثل الأمم المتحدة، ومنظمة شانغهاي للتعاون، وآلية الثقة المتبادلة والتشاور الآسيوية، والتحديات الأمنية العالمية المشتركة في تغير المناخ العالمي، وتحويل نمط الطاقة، وإدارة الذكاء الاصطناعي وتعديل سلاسل التوريد العالمية.

وأخيرا، الوقود الروحي لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية، والذي يقوم على تعزيز التبادلات الثقافية والتعلم المتبادل بين الصين ودول الجنوب العالمي، والذي يحقق الوئام والانسجام لفلسفة الحياد ومجتمع المستقبل المشترك. فعلى سبيل المثال، اقترحت الصين مبادرة حضارية عالمية تقوم على تعميق التعاون الدولي والتبادلات الشعبية على أساس المساواة، وتعزيز القيم المشتركة للسلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية للبشرية..

 

الملخص

في عالم اليوم الذي يمر بتغيرات كبيرة لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمان، يشكل الجنوب العالمي قوة سياسية واقتصادية ذات تأثير عالمي مهم، وتعتبر الصين شريك طبيعي لدول الجنوب العالمي في الحقبة الجديدة لدبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الدبلوماسية. وهذه الدبلوماسية تتميز بسمات مشترك بينهما تتمثل في النضالات التاريخية وتجارب التنمية المشتركة والمفاهيم السياسية التي تتعلق بالحوكمة العالمية في ظل التحولات التي يشهدها النظام العالمي الحالي. كما دخلت سمات دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية التي تتضمن مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وفلسفة الحياد واللذان بينهما تداخل ويحققان المصالح الوطنية للصين ودول الجنوب العالمي وأيضا المصلحة العالمية للتنمية العالمية والسلام العالمي، حقبة جديدة بين الجانبين.

وفي سياق العصر الجديد، ستواصل هذه الدبلوماسية بخطوطها العريضة التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ استكشاف الإستراتيجيات الصحيحة التي تمكنها من الانسجام مع دول الجنوب العالمي في العصر الجديد على أساس موقفها كشريك طبيعي وأيضا سماتها التي تجمع بين مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وفلسفة الحياد. وفي سياق تنسيق الإستراتيجية الشاملة للنهضة العظيمة للأمة الصينية والتغيرات الكبرى التي يشهدها موقع "الجنوب العالمي" في النظام الدولي الحالي، ستواصل القيادة الصينية إرساء فلسفة محايدة للعولمة والقومية وتطوير حوكمة عالمية مع دول الجنوب العالمي، كما ستواصل تعزيز العمل على تحقيق التعاون المربح للجانبين الذي هو أساس المصالح في علاقات الصين مع الجنوب العالمي، والانفتاح والحياد والسلام اللذين يعتبران جوهر علاقات الصين مع الجنوب العالمي، والمستقبل المشترك الذي يُعتبر الحجر الأساسي لدبلوماسيتها مع دول الجنوب العالمي.

 

--

 

د. هند سلطان، مدرس بالجامعة المصرية الصينية وجامعة حلون وأكاديمية ناصر العسكرية، وباحثة زائرة لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان، ورئيس وحدة الدراسات الآسيوية لمركز رع بالقاهرة.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4