تشهد الفترة الأخيرة حديثا متزايدا على الساحة الدولية حول "القدرة الإنتاجية المفرطة في الصين". يزعم بعض السياسيين ووسائل الإعلام أن الدعم الحكومي الصيني يؤدي إلى فائض في القدرة الإنتاجية في مجالات الطاقة الجديدة مثل السيارات الكهربائية، وأن الصين تقوم بتصدير هذا الفائض بأسعار منخفضة، مما يؤدي إلى تشوه السوق والإضرار باقتصادات الدول الأخرى. فهل سردية "القدرة الإنتاجية المفرطة في الصين" حقيقة أم محض افتراء؟
تصدير المنتجات لا يعني "قدرة إنتاجية مفرطة"
في السادس عشر من إبريل عام 2024، عقد رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ محادثات مع المستشار الألماني أولاف شولتس في قاعة الشعب الكبرى في بكين، وأكد على أنه فيما يتعلق بمسألة القدرة الإنتاجية، فإنه ينبغي أن ينظر إليها من زاوية القوانين الاقتصادية وبموضوعية وجدلية من وجهة نظر السوق ومن منظور عالمي. وقال لي تشيانغ إنه من وجهة نظر السوق، يتم تحديد حجم القدرة الإنتاجية من خلال العلاقة بين العرض والطلب، وإن وجود إنتاج أكبر بشكل معتدل من الطلب يفضي إلى المنافسة الكاملة في السوق وتعزيز بقاء الأصلح في السوق. ومن منظور عالمي، تتحدد القدرة الإنتاجية لمختلف البلدان على أساس المزايا النسبية التي تتمتع بها. وطالما أن الدول تعزز التعاون بينها، فإن بوسعها تحقيق التنمية المشتركة. إن صناعة الطاقة الجديدة في الصين اكتسبت مزايا من خلال التحسين الذاتي والمنافسة الكافية في السوق، وليس من الدعم الحكومي.
في الواقع، نظرية "القدرة الإنتاجية المفرطة في الصين" ليست جديدة. في الماضي، اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية المنتجات الصينية العالية الجودة والمنخفضة الأسعار والمصدرة إلى العالم "قدرة إنتاجية فائضة"، والآن ترى مرة أخرى أن منتجات الطاقة الجديدة التي تصدرها الصين إلى العالم "قدرة إنتاجية مفرطة".
في النظام الاقتصادي العالمي الذي يتسم بدرجة عالية من تقسيم العمل، لا ينبغي أن يكون الطلب والإنتاجية مقتصرين على دولة أو منطقة معينة. بحسب الممارسات الفعلية لمختلف الدول، من الشائع أن تكون القدرة الإنتاجية في صناعة معينة أكبر من الطلب المحلي، وبالتالي فإن التصدير يكون أمرا طبيعيا. على سبيل المثال، تصدر الولايات المتحدة الأمريكية الرقائق وخاصة الرقائق المتقدمة، وتصدر ألمانيا 80% من إنتاجها من السيارات، كما يتم تصدير طائرات الركاب التي تصنعها شركتا بوينغ وإيرباص بكميات كبيرة. لذلك، في ظل اقتصاد السوق، من غير المعقول أن نقول إن الصادرات الكثيرة تعني فائضا في القدرة الإنتاجية.
قال تشو مي، وهو كبير الباحثين في معهد الصين لأبحاث الاقتصاد والتجارة الدولية، إن سلسلة الإمدادات تتكون من جانبي العرض والطلب والجانب اللوجستي. في الحالة المثالية، فإن الموردين عند التخطيط للإنتاج يضعون في الاعتبار التغير في الطلب، بحيث لا يتجاوز الإنتاج القدرة الاستيعابية الحقيقية للسوق. ومع ذلك، هناك العديد من المشكلات التي تحتاج لتسليط الضوء عليها: أولا، أن الطلب قد يتغير في أي وقت؛ ثانيا، أنا هناك فجوة زمنية بين العرض والطلب؛ ثالثا، أن تأخر النقل واللوجستيات يجب أن يؤخذ في الاعتبار، خاصة في التجارة الدولية؛ رابعا، أن تزايد المنافسة يعيد تشكيل العرض والطلب دائما؛ خامسا، أن الحكومات تلعب دورا مهما في توفير بيئة سوق مفتوحة وعادلة.
قال لي تشي، مساعد مدير معهد الصين لتخطيط التنمية بجامعة تشينغهوا: "مناقشة فائض القدرة الإنتاجية من منظور علاقة العرض والطلب، رؤية غير عقلانية وغير علمية. ينجم فائض القدرة الإنتاجية عن عدم وجود طلب كاف على المنتجات التي تم إنتاجها في السوق. ومع ذلك، فإن السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين ليست بدون طلب في السوق. بسبب القيود من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لا يمكن إطلاق طلب السوق بسلاسة، مما يؤدي إلى ظهور القيود وتشوهات السوق." هذا هو السبب الحقيقي وراء ما يسمى بـ"فائض القدرة الإنتاجية" في صناعة السيارات الكهربائية في الصين.
ذرائع للحمائية
في الواقع، نسبة سيارات الطاقة الجديدة الصينية المصدرة إلى العدد الإجمالي لسيارات الطاقة الجديدة المنتجة في الصين، أقل بكثير من ألمانيا واليابان وجمهورية كوريا، فلا مجال للادعاء بأن الصين تصدر المنتجات الفائضة إلى الخارج. على سبيل المثال، في عام 2023، أنتجت ألمانيا أكثر من 6ر3 ملايين سيارة، تم تصدير أكثر من 8ر2 مليون منها إلى الخارج.
وفقا لتقرير نشرته وكالة أنباء "بلومبرغ نيوز" مؤخرا، يفتخر غالبية المصدرين الرئيسيين في الصين في هذا القطاع بمعدلات استغلال القدرات ضمن المعايير المعترف بها دوليا. المشكلة التي تواجهها الشركات الأمريكية والأوروبية هي أنها أقل كفاءة من الشركات الصينية، وليس مشكلة "الفائض في القدرة الإنتاجية" في الصين.
في مؤتمر صحفي في الرابع والعشرين من إبريل 2024، قال وانغ ون بين، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: "إن ربط ’القدرة الإنتاجية المفرطة‘ بصناعة الطاقة الجديدة في الصين هو شكل من أشكال الحمائية." كما أوضح السيد وانغ أن "القدرة الإنتاجية المفرطة" ليست سوى ذريعة للحمائية، وقال إن تقييد صادرات الصين من منتجات الطاقة الجديدة الصينية مثل سيارات الطاقة الجديدة، سيجعل الجميع خاسرين. إن ما يحتاجه العالم ليس خفض الإنتاج في الصين وإنما المزيد من الأموال والمنتجات، لتسريع تحول الطاقة والقضاء على الفقر. وأضاف وانغ: "وفقا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، فإنه من أجل تحقيق هدف الحياد الكربوني، يجب أن تصل مبيعات سيارات الطاقة الجديدة في العالم إلى حوالي خمسة وأربعين مليون سيارة بحلول عام 2030، وهو ما يعادل 5ر4 أضعاف المبيعات في عام 2022؛ كما يجب زيادة الطلب على الطاقة الكهروضوئية المركبة بشكل كبير. المشكلة الرئيسية التي يواجهها العالم اليوم ليست القدرة الإنتاجية المفرطة، بل نقص الطاقة. تعمل الصين على تطوير التقنيات والمنتجات الخضراء، خاصة صناعة الطاقة الجديدة، لتلبية احتياجات الدول المختلفة للتخفيف من أزمة الطاقة ومواجهة تغير المناخ، وسوف تقدم مساهمات مهمة في تحول الطاقة الخضراء والمنخفضة الكربون للعالم."
يرى السيد لي تشي أن مشكلة القدرة الإنتاجية المفرطة هي المنافسة على القدرة الإنتاجية. من منظور الاستثمار الصناعي، فإن أي رجل أعمال سيسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الربح كهدف، ويتبع استثمار وإنتاج مركبات الطاقة الجديدة النظريات الاقتصادية الكلاسيكية. سيؤدي السجال حول القدرة الإنتاجية المفرطة إلى تبادل الاتهامات والحواجز الجمركية والحروب التجارية.
قال نيكولاس لاردي، الزميل في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي بواشنطن، في مقابلة مع وكالة أنباء الصين الجديدة ((شينخوا)) مؤخرا: "إن حجة الغرب المتعلقة بالقدرة الفائضة تخاطر بأن تكون ذريعة للحمائية وقد تعيق النمو الاقتصادي لكل دولة في نهاية المطاف. إن فكرة القدرة الفائضة هذه هي أنه لا ينبغي لك أن تنتج أكثر مما يمكنك بيعه محليا. وإذا تم تطبيق ذلك إلى أقصى الحدود، فإن هذا يعني عدم وجود تجارة على مستوى العالم. الجميع سوف ينتجون فقط ما يستهلكونه محليا. ستكون هذه كارثة كاملة ومطلقة لكل الاقتصادات."
قال لاردي إنه يشعر بالقلق بشأن اتجاه مناهضة العولمة والحمائية المستتر خلف "نظرية القدرة الإنتاجية المفرطة في الصين". كما أشار لاردي إلى أنه لا يعرف كيفية تقييم "القدرة الإنتاجية المفرطة" حتى بالنسبة إلى خبير اقتصادي مثله.
قال كريستوفر موتسفانغوا، سفير زيمبابوي الأسبق لدى الصين وأمين شؤون الإعلام والدعاية بحزب الاتحاد الوطني الأفريقي الزيمبابوي- الجبهة الوطنية الحاكمة في زيمبابوي: "لقد جعلت الشركات الصينية مركبات الطاقة الجديدة أرخص وأكثر شعبية، ويتم تحديد قوتها التصنيعية وقدرتها التنافسية من خلال السوق، وهو ما ينبغي الاعتراف به والإشادة به من قبل المجتمع الدولي." تتميز الصين بسلسلة القيمة الكاملة ونظام التصنيع الأكثر كفاءة وحقوق الملكية الفكرية. يمكن للبلدان النامية شراء بطاريات الطاقة الجديدة العالية الجودة وتحقيق التحول من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة الخضراء بسرعة، حتى يتمكن المجتمع الدولي من التعامل مع تغير المناخ العالمي بشكل أفضل. في حين أن بعض الاقتصادات المتقدمة تعمل على تضخيم "القدرة الإنتاجية المفرطة" من أجل حماية شركاتها المحلية، مما يضر بالتجارة العالمية.
قال جون روس، المدير السابق للسياسات الاقتصادية والتجارية لدى عمدة لندن، إن الولايات المتحدة الأمريكية تشعر بالقلق من أن المزيد من منتجاتها قد تفقد مكانتها الرفيعة في سلسلة القيمة في التجارة الدولية. وهذا يكشف عن النية الاقتصادية للجانب الأمريكي المتمثلة في السعي للحصول على مكانة تنافسية أكثر ملاءمة وأكثر ميزة سوقية من خلال كبح نمو الصناعات الناشئة في الصين.
في عالم اليوم، العرض والطلب عالميان، وتتحدد قدرة البلدان المختلفة على أساس المزايا النسبية التي تتمتع بها. يجب أن ننظر إلى هذه الأمور بموضوعية وجدلية وعقلانية وعلى أساس القوانين الاقتصادية. إن اتخاذ تدابير الحمائية التجارية بذريعة "القدرة الإنتاجية المفرطة" لن يحل المشكلات المحلية، بل سيلحق الضرر باستقرار سلاسل الإنتاج والإمداد في العالم وتطوير الصناعات الناشئة والجهود المشتركة للمجتمع الدولي في مواجهة تغير المناخ والتحول الأخضر.
التعاون الصيني- الأمريكي أهم من المنافسة
من منظور الدولة، من السهل حدوث القدرة الإنتاجية المفرطة، ومن منظور السوق العالمية، يمكن حل المشكلة بسهولة أيضا. قال لي تشي: "ما نحتاج إليه هو انتهاج مبدأ الميزة النسبية ومنح المستهلكين حق الاختيار. المحيط الهادئ كبير بما يكفي لاستيعاب العرض والطلب في الاقتصادَيْن الصيني والأمريكي." إن عدم كفاية الطلب الفعال ظل مشكلة طويلة الأمد واجهتها عدة إدارات أمريكية متعاقبة. في ظل نقص الطلب الفعال في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن السلع الاستهلاكية الرخيصة التي توفرها الصين للشعب الأمريكي لا تخفف العبء عن الأسر الأمريكية فحسب، وإنما أيضا يمكنها زيادة طلب الصين على المنتجات الأمريكية من خلال التعاون بين دوائر الأعمال والمستثمرين الصينيين والأمريكيين وزيادة الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة الأمريكية، وخلق فرص عمل جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدتها على إعادة تنشيط الحيوية في مجال الطاقة. وأضاف لي تشي: "يُعد إصلاح جانب العرض في الصين وتحويل الصناعة في الولايات المتحدة الأمريكية هو السعي لتحقيق التوازن والتنسيق بين العرض والطلب." حاليا، تحاول الصين توسيع الطلب وتنفيذ إصلاح جانب العرض وتحقيق التنمية العالية الجودة، وتستخدم أدوات السياسات مثل إدارة الطلب والتخطيط الإستراتيجي لتعزيز القضاء على الفقر وحماية البيئة وتوسيع الاستهلاك الأساسي. إذا صار الطلب الفعال غير كاف في الصين، فإن هذا سيكون ضارا للولايات المتحدة الأمريكية أيضا.
في الوقت الحاضر، طرحت الصين سياسات إيجابية للانفتاح من جانب واحد، وتشجع رواد الأعمال من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، على الاستثمار في الصين، لتوسيع نطاق الاستثمار الأجنبي والسلع المستوردة. قال لي تشي: "يلعب الانفتاح دوره في مساعدة الصين على التعافي تدريجيا من تداعيات كوفيد- 19، بينما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر انغلاقا وتحيزا وحذرا من المنافسة الخارجية. ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تركز على حل مشكلة نقص الطلب الداخلي لديها."
قال وانغ ون بين: "تتمسك الصين بسياسة الانفتاح، وترغب في التعاون مع جميع الأطراف وتلتزم بالمنافسة العادلة وتحقيق المنفعة المتبادلة والفوز المشترك." وقال إن الصين تأمل في أن تلتزم الدول المعنية بمبادئ اقتصاد السوق والقواعد الاقتصادية والتجارية الدولية بعقلية منفتحة، وتوفر بيئة أعمال عادلة وشفافة ومنفتحة وغير تمييزية تجاه الشركات الصينية.
——
تشانغ لي جيوان، صحفية في مجلة ((تقرير الصين)).