من المعروف أن معظم مسلمي الصين يتركزون في منطقة شمال غربي البلاد، مثل مقاطعتي قانسو وتشينغهاي ومنطقة شينجيانغ الذاتية الحكم لقومية الويغور ومنطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي، فضلا عن وجود مناطق تجمع لهم في مقاطعة يوننان بجنوب غربي البلاد. في هذا العدد، نذهب إلى نانتشونغ، وهي مدينة على مستوى الولاية في شمال شرقي مقاطعة سيتشوان، التي تقع في جنوب غربي الصين، حيث يمثل المسلمون نسبة صغيرة من سكانها.
تتموضع نانتشونغ في موقع جعلها تحتل مكانة متميزة منذ قديم الزمان، فهي ملتقى ثلاثة طرق تجارية معروفة في الصين؛ طريق الحرير البري وطريق تشاما (الشاي والخيل) وطريق الملح. حسب الإمام فنغ يونغ (يونس)، إمام وخطيب مسجد نانتشونغ، يرجع تاريخ وجود المسلمين في نانتشونغ إلى فترة أسرة يوان (عام 1271- 1368)، عندما كان التجار العرب والمسلمون يتوافدون إلى هذه المدينة. وفي فترة أسرة مينغ (1368- 1683)، استوطن المسلمون المغتربون مدينة نانتشونغ وأنشأوا فيها مسجدا، فصارت تجمعا خاصا لهم. حاليا، يبلغ عدد المسلمين في نانتشونغ حوالي ثلاثة عشر ألفا من أبناء مختلف القوميات الصينية.
إمام مسجد بدرجة مدير أعمال
الإمام فنغ يونغ، البالغ من العمر ثمانية وأربعين عاما، الذي يشغل منصب إمام وخطيب مسجد نانتشونغ منذ عام 2000، حاصل على شهادة البكالوريوس في تخصص الإدارة الاقتصادية، قبل أن يتجه إلى دراسة العلوم الإسلامية. يحكي السيد فنغ قصته مع المسجد والعلوم الإسلامية قائلا: "لأن بيت عائلتي يقع بالقرب من مسجد نانتشونغ، يمكن القول إنني ترعرعت في هذا المسجد، وتلقيت بعض العلوم الإسلامية الأساسية على يد الإمام الراحل هوانغ شيان جيان (إبراهيم)، الذي تخرج في مدرسة تشنغدا للمعلمين في أربعينات القرن العشرين. مدرسة تشنغدا تعد مهد تحديث التعليم الإسلامي في الصين الذي كان يقوم على التعليم المسجدي التقليدي. في تسعينات القرن العشرين، كان الإمام هوانغ شيان جيان قد تقدم به العمر، لاحت في الأفق مشكلة نقص رجال الدين الإسلامي في نانتشونغ. وبعد تخرجي في الجامعة سنة 1996، تدهورت صحة الإمام هوانغ بسرعة، وتوفي في صيف ذلك العام، تاركا لي وصية بمواصلة دراسة العلوم الإسلامية لتحمل مهمة الإمامة في مسجد نانتشونغ بعد وفاته، حتى لا تنقطع الرسالة النبيلة في هذه المدينة."
في خريف عام 1996، من أجل تحقيق وصية الإمام الراحل، وبدعم وتشجيع من الوالدين، حزم الشاب فنغ يونغ حقائبه وقصد إلى مدينة شيآن لدراسة العلوم الإسلامية في مدرسة العلوم الإسلامية بمسجد دابييوان المشهور، حيث أمضى ثلاث سنوات هناك. قال: "بعد تخرجي في الجامعة رجعت إلى حجرة الدرس تلميذا مبتدئا أمام معلمي العلوم الإسلامية، الذين كنت أكبر سنا من كثير منهم." بعد إكمال الدراسة في شيآن والتخرج بتفوق، رفض فنغ يونغ دعوات من مساجد كثيرة في مدينة شانغهاي ومقاطعة تشجيانغ، للعمل إمام مسجد هناك، وعاد راضيا إلى مسقط رأسه، وتولى إمامة مسجد نانشتونغ.
"أحسن إلى جارك تكن مؤمنا"
في الثاني عشر من شهر مايو عام ألفين وثمانية، ضرب زلزال بقوة ثماني درجات على مقياس رختر مقاطعة سيتشوان، مخلفا العديد من الضحايا وخسائر هائلة. وقد أسفر الزلزال عن سقوط قبة البناية الرئيسية للمسجد، والتي كانت أعيد بناؤها في سنة 1992. قال الإمام فنغ يونغ: "لم يكن الضرر الهيكلي الذي لحق بالمسجد جراء الزلزال فحسب، وإنما أيضا نجمت عن ذلك مشكلات متراكمة مع تأخر أعمال الإصلاح والترميم لعدم وجود أموال كافية. بدعم من الحكومة والأوساط المختلفة، جمعنا ما يكفي من المال وشرعنا في أعمال إصلاح وترميم مسجد نانتشونغ في عام 2016 على ثلاث مراحل."
يقع مسجد نانتشونغ في المنطقة القديمة للمدينة، والتي يعاني سكانها من تدهور البنية التحتية والمرافق العامة. أثناء التخطيط لأعمال ترميم وإصلاح المسجد، اهتمت لجنة شؤون المسجد برئاسة الإمام فنغ بهذا الوضع. قال: "كان خزان صرف صحي لبناية سكنية مجاورة للمسجد في حالة سيئة ويسبب إزعاجا للسكان. أثناء أعمال تمهيد ساحة المسجد، بادرنا بإنشاء خزان صرف صحي كبير لهذه البناية تحت أرض تابعة للمسجد، فتم حل مشكلة الصرف الصحي للسكان. الأكثر من هذا، جعلنا دورة مياه المسجد مفتوحة لعابري السبيل. نال هذا العمل تقدير وثناء جيران المسجد وغيرهم، مما جعل العلاقة الحميمة بين المسجد والجيران أكثر انسجاما."
إضافة إلى ذلك، يفتح مسجد نانتشونغ ساحته لجيرانه في المساء كموقف مؤقت للسيارات لحل مشكلة عدم وجود أماكن وقوف للمركبات. ويفتح المسجد أيضا ركن الشاي والمطالعة به للجيران خصوصا للمسنين، فيلتقون به للاستراحة أو الدردشة. قال الإمام فنغ يونغ: "على عكس ما هو سائد في معظم المدن الأخرى، حيث معظم سكان محيط المسجد من المسلمين، فإن معظم المقيمين بجوار المسجد غير مسلمين، وهذا يمنحنا فرصة لأداء واجبنا نحو الجيران على أحسن وجه، عملا بقول رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ’’أحسن إلى جارك تكن مؤمنا‘‘."
منذ تفشي وباء كوفيد- 19 في أوائل عام 2020، يلعب مسجد نانتشونغ دورا بارزا في معركة بلا دخان في مقاومة الوباء، بالتعاون مع جيران المسجد ومسلمي نانتشونغ بقيادة الحكومة المحلية للمدينة. قال الإمام فنغ يونغ: "بعد الحصول على الإرشادات من الحكومة حول الإجراءات الاحترازية والوقائية لمنع انتقال عدوى فيروس كورونا، قام مسجد نانتشونغ على الفور بتنفيذها، كتعليق فتح المسجد وإلغاء جميع أنشطة التجمعات الدينية. كان الأمر مفاجئا للجميع، فقمنا عبر الهاتف وتطبيق ويتشات بالشرح وإقناع المسلمين الذين يتبعون تقليد زيارة القبور مع أفراد أسرهم أثناء عطلة عيد الربيع."
من جهة أخرى، اشترت لجنة شؤون مسجد نانتشونغ كمية من الكمامات والمستلزمات الوقائية، وتم توزيعها على جيران المسجد، لتعزيز وعيهم في الوقاية من الوباء، إضافة إلى تشكيل فريق مكون من أعضاء لجنة شؤون المسجد للقيام بعمليات التطهير والتعقيم المنتظمة لمنطقة مسجد نانتشونغ. وبادر الإمام فنغ يونغ مع زوجته بإعداد الأطعمة، مثل باوتسي (الخبز المحشو بلحم البقر)، لتوزيعها مجانا على الأطباء والمتطوعين في إدارة المدينة في أيام الوباء. قال السيد فنغ: "أمام تضحيات الجيش الأبيض وأجهزة إدارة المدينة في الأوساط المختلفة، أردنا أن نفعل شيئا على قدر استطاعتنا، لتقديم دفء المسلمين في أيام الشتاء ضد الوباء."
حوار وتبادل متناغم بين الأديان
تتميز الصين بالعلاقة الودية بين الأديان ومعتنقيها. بصفته عضوا بالمؤتمر الاستشاري السياسي لمدينة نانتشونغ، يلتقي الإمام فنغ يونغ دائما مع الأعضاء الآخرين من الأوساط الدينية في فترة انعقاد المؤتمر، لتبادلات الآراء ووجهات النظر حول الموضوعات ذات الاهتمام المشترك. إضافة إلى ذلك، أقام الإمام فنغ آلية للحوار بين الأديان في نانتشونغ، وضرب مثلا نموذجيا في تعزيز التفاهم بين الأديان المختلفة ومعتنقيها. قال: "بعد تولي إمامة المسجد قبل أكثر من عشرين سنة، بادرت مع رجال الأديان الأخرى بإنشاء آلية للحوار وتبادل الزيارات المنتظمة بيننا، لتعزيز التناغم والتفاهم بين الأديان في نانتشونغ. في المرحلة الثالثة لأعمال إصلاح وترميم مسجد نانتشونغ، فتحنا في المسجد قاعة باسم ’’صوت التناغم على ضفة نهر جيالينغ (النهر الرئيسي في نانتشونغ)‘‘، لتكون منصة خاصة لتنظيم المحاضرات والمناسبات بحضور رجال الأديان المختلفة ومعتنقيها. هذا الأمر لا يعزز التفاهم بيننا فحسب، وإنما أيضا يساعد معتنقي كل الأديان على إزالة الحساسية غير المبررة حول بعض الموضوعات الدينية. اتفقت مع زملائي رجال الأديان الأخرى على أننا كمواطنين للصين، الدولة ذات السيادة بالقانون الذي يضمن لكل شخص حريته وحقه في الاعتقاد الديني، لا ينبغي لنا أن نهدر وقتنا في الجدل حول موضوعات بلا جواب. مهمتنا كرجال أديان هي نشر التسامح والمحبة وإزالة الكراهية وسوء الفهم."
بفضل هذه التبادلات الودية المتواصلة، تشهد نانتشونغ أجواء مثالية بين الأديان؛ فالمسلمون يقدمون أطعمة أعيادهم إلى أصدقائهم المسيحيين، ويدعو المستشفى التبشيري المسيحي المسلمين للقيام بالفحص الصحي مجانا كل عام، ويقود أسقف كاثوليكي مريديه إلى مسجد نانتشونغ للتعرف على تجارب وخبرات الإمام فنغ يونغ وفريقه في إدارة المسجد المتطابقة مع متطلبات العصر المتطور، ويشارك راهب بوذي صور المعلومات المفيدة سجلها الإمام فنغ يونغ في محاضرات دورة تدريبية في بكين.
"قدري ونصيبي"
في السابع والعشرين من نوفمبر عام 2020، منحت حكومة مقاطعة سيتشوان الإمام فنغ يونغ لقب "المواطن النموذجي في مجال التضامن القومي على نطاق مقاطعة سيتشوان"، تقديرا لما بذله من جهود هائلة في تعزيز التضامن بين أبناء القوميات وما حققه من إنجازات كبيرة في التفاهم الثقافي.
أمام العديد من ألقاب الشرف والتكريم، قال الإمام فنغ يونغ: "ما زلت أتذكر بوضوح اليوم الذي ترك فيه معلمي الراحل هوانغ شيان جيان لي وصية قبل وفاته، وأجبته ’’سمعا وطاعا‘‘ بلا تردد، حيث أدركت أن تحقيق هذه الوصية هو قدري ونصيبي. نحن جيل محظوظ ونعيش في وطن ينعم بالسلام والازدهار في عصره الذهبي. ليس لدي اختيار سوى بذل قصارى جهودي لتحقيق أمل معلمي الراحل، ورد الجميل للحكومة على دعمها وثقتها بي."
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037