ربما "نيوجيه" من أوائل الكلمات الصينية التي يعرفها الأصدقاء العرب والمسلمون بعد قدومهم لأول مرة إلى بكين. وبرغم أن نيوجيه مجرد اسم لشارع في جنوبي العاصمة بكين، فإنه يحمل معاني ودلالات عديدة، فهو يشير إلى المسجد والأطعمة الحلال والإسلام في الصين. في هذا العدد، نصطحب القراء في جولة بهذا الشارع من الشمال إلى الجنوب، لنستكشف التاريخ والقصص وراء بناياته ومعالمه.
تاريخ الشارع وتسميته
تقع منطقة نيوجيه في حي شيتشنغ بجنوبي بكين، وهي عبارة عن شارع بطول إجمالي حوالي سبعمائة متر، يمتد من شارع نانهنغ الغربي جنوبا إلى طريق قوانغني شمالا. يرجع تاريخ هذا الشارع إلى فترة أسرة يوان (1271- 1368)، ولأن هذه المنطقة أكثر ارتفاعا عما حولها كانت تحمل اسم قرية قانغشانغ (الواقعة فوق ربوة). في فترة أسرة تشينغ (1644- 1911)، ازدهرت هذه المنطقة مع زيادة عدد السكان وإنشاء الأزقة التجارية. كان سكان نيوجيه، في ذلك الزمان، مغرمين بغرس أشجار الرمان في أفنية بيوتهم وعلى جانبي الأزقة والحارات، فأطلق الناس على المكان اسم "شارع ليوجيه"، أي شارع الرمان. ولكن تغير هذا الاسم فيما بعد الى"نيوجيه"، لأن معظم سكان المنطقة مسلمون يعملون في تجارة البقر والغنم، كما أن هناك تشابها كبيرا في النطق بين كلمتي ليو (الرمان) ونيو (البقر).
مطعم توربان
إذا أردنا أن تكون جولتنا في نيوجيه رحلة ممتعة للأطعمة الطيبة، فلا مفر من أن نبدأ من مطعم توربان الواقع في الجانب الشرقي بشمالي شارع نيوجيه. افتتح هذا المطعم في أواخر عقد الثمانينات من القرن العشرين. وكما هو واضح، فإن اسمه مأخوذ من اسم مدينة توربان بمنطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، ومن الطبيعي أن نتوقع أن الأطعمة التي يقدمها هي أطباق شينجيانغ بشكل رئيسي، وفي مقدمتها كباب لحم الغنم "يانغروتشوان"، حيث تشوى قطع اللحم مغروسة في أعواد من الصفصاف الأحمر، والغنم المشوي، وقطع الدجاج المحمر مع البطاطس. هذا المطعم الذي يتميز برخارفه ذات الخصائص الإسلامية الصينية والويغورية، يتكون من طابقين بمساحة إجمالية 1700 متر مربع، ويعمل فيه 120 فردا من أبناء القوميات المختلفة.
على مدى أكثر من ثلاثين عاما من الإدارة الجيدة، زادت شهرة معطم توربان بأطباقه المتميزة التي تناسب ذوق الزبائن. إنه الآن ليس فقط من المطاعم المفضلة للمسلمين، بل هو أيضا الاختيار الأول للمشاهير وعامة الناس لتناول الطعام.
سوبرماركت نيوجيه
افتتح سوبرماركت نيوجيه الذي يقع بالجانب الغربي للشارع مقابل مطعم توربان، في عام 2003، لتلبية حاجة السكان المسلمين المتزايدة للمنتجات الغذائية الحلال. يحرص سوبرماركت نيوجيه على جلب المنتجات الغذائية ذات الجودة العالية من أنحاء الصين لجعل عملية التسوق لأبناء نيوجيه من مختلف القوميات سهلة وميسرة. في عام 2018، تم توسيع سوبرماركت نيوجيه، مما جعله كيانا متكاملا ذا وظائف متعددة في إتاحة الخدمات الغذائية للمستهلكين. إضافة إلى السوبرماركت، تم فتح العديد من نوافذ بيع الأطعمة الخفيفة ذات الخصائص القومية الصينية التقليدية، مثل أنواع من الكعك المصنوع من الأرز، ومنتجات اللحوم المحمرة من البقر والغنم والدجاج، قد أدى هذا التطوير إلى جعل طوابير الانتظار، التي كانت طويلة بالفعل أكثر طولا.
بعد تحقيق النجاح التجاري، لم يغفل مجلس إدارة شركة سوبرماركت نيوجيه عن أداء واجباته الاجتماعية، حيث قامت الشركة بإنشاء صندوق خيري بنسبة معينة من دخل الشركة لمساعدة الطلاب المحتاجين وأسرهم من القوميات المختلفة. كما تنظم الشركة في أيام المناسبات والأعياد فعاليات خيرية. هذه الأعمال تحظى بثناء وتقدير كبيرين من قبل الجمهور والحكومات بمختلف المستويات.
مدرسة شيوانوو الابتدائية لأبناء هوي
بجانب بناية سوبرماركت نيوجيه، تتربع مدرسة شيوانوو الابتدائية لأبناء قومية هوي التي يرجع تاريخ إنشائها إلى سنة ألف وتسعمائة وتسع وعشرين، وتمثل مهد التعليم القومي لأبناء نيوجيه، بل ولكل سكان جنوبي حي شيتشنغ. على مدى ما يربو على تسعين عاما من التطور، تخرج فيها نحو خمسة عشر ألف طالب وطالبة من أبناء قوميات هوي وهان ومان ومنغوليا والويغور وغيرها من القوميات المختلفة. حاليا، هذه المدرسة لها ثلاثة فروع بإجمالي مساحة إنشائية أكثر من 9800 متر مربع، ومساحة أرض أكثر من 20 ألف متر مربع، ويدرس فيها حوالي 2500 طالب تحت إرشاد هيئة تدريس مكونة من أكثر من 140 معلما ومعلمة.
تتمتع مدرسة شيوانوو الابتدائية لأبناء قومية هوي بالموارد القوية، من حيث أعضاء هيئة التدريس والمرافق والبيئة التعليمية. بعد مشروع تجديد بناية التدريس في عام 2002، شهدت المدرسة التقدم الملحوظ في الجوانب المختلفة، حيث أدرجت في عام 2019 ضمن الدفعة الأولى لمدارس التعليم الإلزامي النموذجية إداريا على نطاق مدينة بكين. حاليا، تسعى مدرسة شيوانوو لأبناء قومية هوي لتوارث التجارب الناجحة من العقود الماضية، وتحقيق إنجازات جديدة في التعليم القومي الحديث لتكون مدرسة ذات خصائص قومية بجودة عالية.
القدر الساخن في جيويباويوان
في جنوبي الصين، يُستخدم الفلفل الحار في حساء القدر الساخن، بينما في بكين وهي مدينة شمالية، يستخدم في الحساء الماء الصافي المغلي مع قليل من التوابل والمكونات فقط مثل البصل الأخضر وشرائح الزنجبيل، الأمر يضع متطلبات أعلى لجودة لحم الغنم أو البقر. المطاعم الإسلامية لها مزايا معروفة في صنع القدر الساخن بالطريقة الشمالية، والفضل في ذلك يرجع إلى أطباق اللحوم الحلال التي تقدمها.
عند الحديث عن القدر الساخن في بكين، لا بد من الذهاب إلى مطعم جيويباويوان الذي يقع في وسط شارع نيوجيه. يرجع تاريخ هذا المطعم إلى محل لبيع اللحوم افتتح سنة ألف وتسعمائة وسبع وثلاثين. بفضل جودة منتجاته الطازجة، اشتهر جيوباويوان بين أهل بكين جميعا، فيأتيه الناس من الأحياء الأخرى بالعاصمة لشراء لحم البقر والغنم، متجشمين مشقة المواصلات والانتظار في طابور طويل.
في عام 2003، افتتح جيويباويون مطعما لتقديم القدر الساخن، باستخدام شرائح لحم البقر والغنم التي تصنع من لحوم المحل، والتي جذبت عددا متزايدا من الزبائن، فبزغ نجم جيويباويوان سريعا بين المطاعم المماثلة التي أنشئت قبله بسنوات عديدة. برغم توسيع مساحة المطعم مرات، مازالت طوابير الانتظار أمام الفرع الرئيسي للمطعم طويلة، وقد يمتد الانتظار ساعتين أو ثلاث ساعات في أيام المناسبات والأعياد، لا لشيء إلا للتمتع بمذاق طعم القدر الساخن في جيوباويوان.
مسجد نيوجيه
تلك هي المحطة الأهم في جولتنا؛ مسجد نيوجيه، أقدم وأكبر مسجد من بين أكثر من ثمانين مسجدا في العاصمة الصينية بكين. وفقا لنقوش النصب الحجري في المسجد، فإن نصر الدين هو أول من أنشأ مسجد نيوجيه، وهو ابن لشيخ عربي أتي إلى الصين بغرض الدعوة للإسلام عام 996 (في فترة أسرة سونغ الشمالية). قيل إن عمارة المسجد كانت على الطراز العربي عندما شُيد مسجد نيوجيه قبل ما يربو على ألف عام، وخلال العديد من عمليات الترميم والتجديد أدخلت فيه عناصر من فن العمارة الصيني التقليدي. واليوم، ومن حيث الطراز المعماري والتصميم العام، مازالت السمات الإسلامية هي الغالبة، خصوصا في الزخارف الداخلية. أجريت للمسجد عملية ترميم واسعة خلال فترة الإمبراطور كانغ شي (1662- 1722)، ومرات أخرى بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، حيث أعيد ترميم ودهان وزخرفة البنايات كاملة. في عام 1988، تم إدراج مسجد نيوجيه في الدفعة الثالثة من الوحدات الإدارية المهمة لحماية الآثار على مستوى الدولة.
داخل البوابة الأمامية للمسجد يوجد هيكل سداسي يسمى ببرج رؤية الهلال. في كل عام في بداية ونهاية شهر رمضان يتم استطلاع الهلال فيه لتحديد وقت الصيام. أمام البرج قوس تذكاري وحائط حاجز مغطى برسوم محفورة يمثلان معا بوابة المسجد. خلفها القاعة الرئيسية التي يصلي فيها المسلمون. وفقا للعقيدة الإسلامية، على المصلي أن يركع ويسجد باتجاه الكعبة المشرفة (في بكين، إلى الغرب) ولهذا فإن مقدمة القاعة تواجه الشرق.
خلف القاعة الرئيسية، مجموعة من القاعات الصغيرة على الطراز الإسلامي الصيني. التصميمات والنماذج في كافة الزخارف مكونة من حروف عربية وأشكال هندسية. في قلب هذا الجزء توجد المنارة (المئذنة) التي منها يدعو المؤذن المؤمنين للصلوات الخمس. في قلب الفناء عدد من البنايات الإضافية، منها فصول للتدريبات الدينية. الجزء الجنوبي لمجمع المسجد دورة مياه كبيرة للأغراض الدينية.
يوجد في الركن الجنوبي الشرقي من المسجد ضريحان للشيخ أحمد البرطاني القزويني المتوفي سنة 1280، والشيخ على عماد الدين البخاري المتوفي سنة 1283، وهما من علماء الإسلام العرب الذين جاؤوا إلى الصين لنشر الإسلام، تنتصب بجوار هذين الضريحين شاهدتان منقوشتان بكتابات عربية واضحة الخطوط حتى يومنا هذا.
ختام الجولة
إضافة إلى ما ذكرنا أعلاه من المعالم المشهورة، يقع في منطقة نيوجيه أيضا المعهد الصيني للعلوم الإسلامية ومستشفى أبناء قومية هوي ودار المسنين القومية ومدرسة بكين لأبناء قومية هوي. هذه البنايات هي بيت مشترك للمسلمين وإخوتهم من أبناء القوميات المختلفة، فقد سجلوا عددا لا يحصى من القصص الدافئة خلال التاريخ الممتد أكثر من ألف سنة، مما يجعل نيوجيه نافذة نموذجية يطلع الأصدقاء الأجانب من خلالها على التضامن القومي في العاصمة وليشاهدوا أيضا ثمار سياسات الصين القومية والدينية.