بعد جولتنا الممتعة في شارع نيوجيه بجنوبي بكين في عدد شهر سبتمبر 2022 لمجلة ((الصين اليوم))، نذهب إلى شرقي العاصمة الصينية، حيث تربض بلدة تشانغينغ لأبناء قومية هوي بحي تشاويانغ، وهي مقصد له شهرة كبيرة بين مسلمي الصين ومحبي الثقافة القومية.
تقع تشانغينغ في أقصى شرق حي تشاويانغ، بجوار حي تونغتشو. تبلغ مساحة البلدة 3ر9 كيلومترات مربعة ويبلغ عدد سكانها نحو أربعين ألف نسمة، يمثل أبناء قومية هوي المسلمون حوالي 45% منهم.
في بكين، التي تتمتع بشبكة مواصلات متقدمة، يمكن الوصول إلى بلدة تشانغينغ بركوب الخط السادس لمترو بكين، الذي يمر بوسط المدينة من الغرب إلى الشرق. بعد الخروج من محطة هوانغتشيوي للمترو، تستقبلك شوارع واسعة تحفها الأشجار والنباتات، مع حركة مرور غير كثيفة مقارنة مع وسط المدينة، وتعبق برائحة طبيعية منعشة طيبة، بفضل الغطاء النباتي الكبير.
أصل اسم تشانغينغ
مثل أي مدينة تاريخية، لكل اسم مكان في بكين أصل وقصة، وتشانغينغ ليست استثناء في ذلك. يتفق الباحثون على أن اسم تشانغينغ مأخوذ من اسم الجنرال العسكري المسلم الصيني المشهور تشانغ يوي تشون (1330- 1369) وجنوده. تتكون كلمة "تشانغينغ" من مقطعي كتابة في اللغة الصينية؛ الأول "تشانغ" وهو اسم العائلة، والثاني "ينغ" ويعنى المعسكر. وعليه، فإن اسم "تشانغينغ" يعني المكان الذي اتخذه الجنرال تشانغ يوي تشون وجنوده معسكرا لهم. ولكن من هو تشانغ يوي تشون؟
في نهاية فترة أسرة يوان (1271- 1368)، عانى الشعب الصيني من طغيان الحكام المغول والكوارث الطبيعية المتواصلة، وشهدت البلاد انتفاضات الفلاحين في أرجائها بهدف إسقاط الحكم المغولي الظالم.
ولد تشانغ يوي تشون في مقاطعة آنهوي بجنوبي الصين، وانضم إلى تمرد العمامات الحمراء في عام 1355 للإطاحة بحكم أسرة يوان. في نفس العام، انضم تشانغ يوي تشون إلى قوات تشو يوان تشانغ (الامبراطور المؤسس لأسرة مينغ لاحقا) في القتال ضد جيش يوان، وقد انتصرت قوات المتمردين تحت قيادة تشانغ يوي تشون في تلك المعارك، وأصبح قائدا مشهورا من بين أنصار تشو يوان تشانغ، وتمت ترقيته لاحقا إلى رتبة "يوانشواي" (مارشال).
وفقا لنقوش النصب الحجري القائم في ساحة مسجد تشانغينغ، فإنه في عام 1368، قاد الجنرال تشانغ يوي تشون وأتباعه فرق الخيول والمشاة والقوارب بطريق قناة بكين- هانغتشو الكبرى، لشن المعارك في شمالي الصين، واستولوا على مدينة دادو (بكين حاليا) عاصمة أسرة يوان في ضربة واحدة، وتم تغيير اسم العاصمة إلى "بيبينغ" (السلام الشمالي). وبينما كان تشانغ يوي تشون يعتزم التوجه غربا لقتال جنود أسرة يوان الفارين، اقترح الجنرال هو دا هاي سحب جزء من الجنود لاستصلاح الأراضي القاحلة وزراعة الحبوب الغذائية لحل مشكلة الغذاء والرواتب للجيش. وافق تشانغ يوي تشون على الاقتراح واختار الجنود الذين يجيدون الأعمال الزراعية، فأنشأوا المعسكرات واستوطن هؤلاء الجنود في السهول الشاسعة الشمالية، فأطلقت الأجيال اللاحقة على هذه المنطقة اسم "معسكر تشانغ"، أي "تشانغينغ" باللغة الصينية.
مسجد تشانغينغ
كان من بين جنود تشانغ يوي تشون الذين استقروا في بكين، كثير من المسلمين. على مدى أجيال ازداد عدد المسلمين هنا، شأنهم شأن المسلمين في أرجاء العالم، حيث أنشأوا مسجدا في قلب البقعة التي يسكنون فيها، وهو مسجد تشانغينغ.
حسب السجلات التاريخية، بني مسجد تشانغينغ في عهد الإمبراطور تشنغ ده (1506-1521 على العرش)، وشهد المسجد عبر العصور تغيرات عديدة، من ترميم وتوسيع بعد تخريبه وهدمه. يرجع تاريخ أقدم عملية ترميم مسجلة وإعادة بناء الهيكل الكامل للمسجد إلى الفترة ما بين عامي 1796 و1799، في فترة أسرة تشينغ (1644- 1911). وقد تمت هذه العملية بتكلفة باهظة من تبرعات أبناء تشانغينغ. في أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن العشرين، قامت حكومة تشانغينغ المحلية بترميم وإصلاح مصلى السيدات والمئذنة وتوسيع قاعة الصلاة الرئيسية، بتكلفة إجمالية تجاوزت مليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي يوانين تقريبا في ذلك الوقت). في عام 2000، أدرجت الجمعية الإسلامية الصينية مسجد تشانغينغ ضمن الدفعة الأولى لـ"مائة مسجد نموذجي على مستوى البلاد".
مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي الملحوظ الذي شهدته بلدة تشانغينغ، لم يعد مسجد تشانغينغ بحجمه الصغير وتجهيزاته القديمة كافيا لتلبية حاجة أبناء البلدة المسلمين. في مايو عام 2002، بعد تشاورات واسعة النطاق مع رجال الدين الإسلامي والمسلمين المحليين، بدأت حكومة تشانغينغ تنفيذ أكبر مشروع لإصلاح وترميم مسجد تشانغينغ بأكبر تكلفة في التاريخ منذ إنشائه، بلغت 13 مليون يوان. بعد إتمام المشروع، زادت مساحة مسجد تشانغينغ الإنشائية إلى 4578 مترا مربعا، ومساحته الأرضية 8459 مترا مربعا. اشتمل المشروع أيضا على إنشاء مركز خدمات للمسلمين على مساحة 5460 مترا مربعا لتلبية احتياجات المسلمين في المراسم والمناسبات الدينية. إضافة إلى ذلك، تم إنشاء ساحة خاصة بمساحة أكثر من ألف متر مربع، أمام بوابة المسجد، وبناية تجارية للمطاعم الحلال، يتم تأجيرها واستخدام عائدها لتغطية نفقات المسجد اليومية.
بعد مشروع الترميم، أصبح مسجد تشانغينغ متميزا بأسلوب عمارة دقيق متماسك، مفعم بالفخامة والعظمة، وذي ذوق رفيع، وصار تحفة معمارية تجمع بين الرومنطيقية الكلاسيكية والروح العصرية الحديثة.
تجمعات سكنية جديدة لأبناء القوميات
ظلت تشانغينغ، التي تقع في ضاحية بكين، بلدة ريفية منذ قديم الزمان، تفتقر إلى الإدارة الدقيقة والتخطيط المنتظم، فواجهت جملة واسعة من المشكلات البيئية والخدمية والمرافق العامة. في عام 2000، ومع ولوج التاريخ إلى الألفية الجديدة، استقبلت تشانغينغ عصرا جديدا أيضا، حينما أطلقت مدينة بكين حملة تخضير المناطق الريفية في الضواحي القريبة، فاغتنمت حكومة تشانغينغ هذه الفرصة الذهبية لركوب قطار التنمية السريع للعاصمة، حيث قامت بمشروع إزالة المنازل الريفية القديمة لأبناء تشانغينغ، وإنشاء تجمعات سكنية حديثة، وفقا لتخطيط علمي محكم، فصار أبناء الريف من أهل الحضر، يتمتعون بسهولة الحياة الحديثة. كما أنشأت حكومة تشانغينغ بنايات تجارية وحدائق عامة، لتوفير أحسن بيئة حضرية للسكان، بالاستفادة من الأراضي المتوفرة من خلال مشروع التخضير الريفي.
من بين التجمعات السكنية التي أنشئت، تجمع "مينتسو جيايوان (دار أبناء القوميات)" الذي تم إنشاؤه بدمج ثماني قرى لقومية هوي في بلدة تشانغينغ. بدأ المشروع في عام 2001، على مساحة تجاوزت 45 هكتارا، وعلى ثلاث مراحل تشمل نحو مائة بناية منفصلة. ولمراعاة عادات وتقاليد أبناء قومية هوي المسلمين، تقع كل بنايات القرية الجديدة حول مسجد تشانغينغ، الذي أجريت عليه أيضا عملية ترميم وتوسيع بالتزامن مع إنشاء التجمعات السكنية.
تولي حكومة تشانغينغ عناية واهتماما لتلبية احتياجات السكان. نظرا لعدم وجود مصاعد كهربائية في معظم بنايات التجمع السكني التي تتكون من خمسة أو ستة طوابق، وما ينتج عن ذلك من صعوبات للمسنين والأطفال، بدأت الحكومة في سنة 2018 مشروع تركيب المصاعد الكهربائية في تجمع "مينتسو جيايوان" وغيره من التجمعات السكنية في البلدة.
تشانغينغ الثقافية والرياضية
مع تسارع التحول الحضري لسكان الريف، قد صعد الفلاحون في تشانغينغ البنايات العالية منذ بضع عشرة سنة، وصاروا مثل أهل المدن في حياتهم وإنتاجهم. وقد نفذت حكومة تشانغينغ مشروعات ثقافية لسكان البلدة، فأنشأت بطاقتي "تشانغينغ الثقافية" و"تشانغينغ الرياضية"
فيما يخص "تشانغينغ الرياضية"، تعمل الحكومة على تكوين علامة تجارية بأسلوب "الرياضية+" من خلال التخطيط المنهجي، فبالاعتماد على مسار سباق نصف ماراثون وحديقة رياضية، تنظم مسابقة تشانغينغ لنصف الماراثون، وسباق الجري الملون، والجري المصغر، إضافة إلى إقامة "مهرجان الشعب الثقافي" و"مهرجان الرياضة البدنية" وما إلى ذلك من الأنشطة المتنوعة، لتعزيز شعور سكانها بالكسب والسعادة.
أما في مجال "تشانغينغ الثقافية"، فتقوم حكومة البلدة بتصميم بناء المناظر الطبيعية الحضرية في الأماكن العامة، وتعزيز تراث الثقافة الرياضية. فعلى سبيل المثال، يتم استغلال الأراضي التي كانت تُستخدم في تربية المواشي في الماضي، لبناء حديقة ينغشي الرياضية، لتطوير الرياضة العامة، وبناء حديقة للياقة البدنية تدمج الرياضة والترفيه والذكاء الاصطناعي والبيئة الإيكولوجية، وإنشاء مركز تجربة النشاط الوظيفي الذي يتمتع به الأفراد من مختلف الفئات العمرية، إضافة إلى الاعتماد على مسار سباق نصف ماراثون في بناء حديقة تشانغينغ للمناظر الزراعية، التي تتميز بتجربة الزراعة والاستمتاع بالمناظر الزراعية والقيام بالرياضة البدنية. في يناير 2020، حصلت تشانغينغ على لقب "البلدة المتميزة في الرياضة على نطاق مدينة بكين لعام 2019".
باعتبارها البوابة الشرقية لحي تشاويانغ، شهدت تشانغينغ تغيرات سريعة وتقدما مستداما في شتى المجالات، من خلال جهود أبناء تشانغينغ من مختلف القوميات. إن تشانغينغ تنجز مهمتها على أكمل وجه، سواء في التضامن بين القوميات أو التنمية الاقتصادية الاجتماعية، لتسجل صفحة رائعة جديدة في العصر الجديد.